الدكتور صادق النابلسي | كاتب وأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية.
لا أحد من الكبار في السلطة قديماً وحديثاً راودته الرغبة في الذهاب إلى البقاعِ الأقلِ حظاً وحظوة في الجغرافيا اللبنانية. المناطق هناك ملعونة لا تثير رد فعلٍ إنساني من مسؤولين يجدون كل متعهم في العاصمة ومدن النعيم الموزّعة على أكتاف جبل لبنان. الخارطة الاجتماعية واضحة. فالبلد مقسّم بفعل الخطوط العبثية التي رسمها الاستعمار بين المناطق حيناً وبين الطوائف حيناً آخر. ثم جاءت السياسة، بكل مفسديها لتغلق في وجه المعذّبين على تلك الأرض غير الواسعة، سبل الحياة الكريمة، واختَلَقت تلك الكلمة الغبيّة «النأي بالنفس» التي زادت من البطون الغرثى والأكباد الحرّى والمقتولين يأساً وأسًى. الجغرافيا لا تكبّد نفسها عناء الفرار من حياة البائسين. والبائسون لا يجدون حيلة لسدّ الرمق إلا تبادل السلع التي تتفاوت قيمتها على ضفاف هذه الأمتار القليلة المتقابلة. منذ أن نشأت الحدود تجري الأمور هناك على هذا المنوال. الجوع أيقظ مَلَكاتِهم ومهاراتهم في هذا النوع من الروابط والتجارات بعدما أغمضت الدولة ومنظمات حقوق الإنسان عن التعامل معهم كبشر. فلِمَ يحتاجون إلى تبرير أفعالهم لمن أقعدتهم التخمة عن سماع حكايات شقائهم؟ ليس متعذراً علينا أن نعيّن ما هو نقيض تلك الجغرافيا الحدودية المتاخمة لسوريا في الشرق والشمال. كل الأماكن الأخرى هي نقيضها. ولسنا هنا في معرض ترتيب المكانات بين المناطق لكن سوء طالعها بدأ منذ أن تشكّلت ذاكرة تتزين بزيفها فتطلب أن يكون الأشقاء في عداء مرير، قبل أن تنفتح عيون الوكلاء عندنا على مصراعيها تدعو إلى توسيع صلاحيات القوات الدولية لتشمل الحدود مع سوريا بناء على القرار 1701. ما هال هؤلاء انخراط حزب الله في الحرب ضد التكفيريين وإفشاله مخططهم وإبطاله نبوءتهم. منح الوكلاء المحلّيون كل ما اشتهته أمريكا وإسرائيل والسعودية وقوى «المجتمع الدولي» التي تتحفنا دائماً بسنّ المعايير وبناء التصورات واجتراح المصطلحات التي على أساسها، على العالم أن يستجيب لها استجابة كاملة وإلا خضع للتأنيب والحصار والعقوبات والعزل والطرد من جنة الحكم والوجاهة السياسية. أخبار هذه الزمرة من الوكلاء يجب أن تُقرأ بحذافيرها. كيف كانوا يرتجفون مثل الدودة عندما يأتي الاتصال الخارجي أو يأمر السفير وتتمنى السفيرة؟ لم يكن آنذاك «تهريب» آلاف النازحين جريمة. لم يكن «تهريب» آلاف المسلحين التكفيريين جريمة. لم يكن «تهريب» أطنان من السلاح ونيترات الأمونيوم جريمة. الفجوات التي تركها نظامنا السياسي الأرعن لتعبر منه المواد الطبية والغذائية والكهربائية والمشتقات النفطية ورزم الدولارات «للثورة السورية» لم تكن جريمة. كان كل ذلك مشروعاً وضمن القوانين اللبنانية المرعية الإجراء، وفي إطار الاتفاقات الدولية التي تراعي حقوق الإنسان ويلتزم بها لبنان!! آآآخ. من أين يأتي كل هذا النزق! لم يكن وقتذاك مطلوباً التشديد والتشدّد، ولا نصب الأبراج ولا إنشاء فوجٍ للحدود، ولامَن يقتفي الأنفاس ويسجّل بدقة كل خطوات العابرين ذهاباً وإياباً.ما يبدو اليوم غريباً وغير مشروع كان إبّان اشتعال «الثورة» هو العدل والصراط المستقيم وما يمليه الواجب الإنساني والوطني! لأنّ مَن كانت تصلهم التحويلات المالية والنفطية ومَن كان يكتب التقارير لمن ينتظر وراء البحار كان يظن أنّ آكلي الأكباد سيمسحون السيف من دم حزب الله الذي سينتهي تحت قبضة سكاكينهم من الجهتين اللبنانية والسورية ويقفلون ملفه إلى الأبد. لقد بالغوا حتى على الرئيس الراحل حافظ الأسد في مقولته الشهيرة «شعب واحد في بلدين»، وعلى القوميين السوريين في «الوطن الكبير». ثم دخل على الخط بعض الشيوعيين – جناح جورج سوروس- لتفسير ظاهرة الطبقية من جديد حيث بلغت نقطة الختام عند هذه الفراسخ التي أصبحت مُلكاً مشاعاً باتجاه الكذبة أو الخرافة أو الهذيان الذي سكن رؤوسهم. في وقت أنجز الإعلام حصته وهو يتحدث عن مآثر ومناقب التجسيد الجغرافي والبشري، وأعلن أنّ كل البلاد ستمارس كل صنوف الديموقراطية والحريات الشهية!
على مَن يضحكون ومَن يخدعون؟ أولئك الذين اكتشفوا أنّ اللعبة انتهت من دون متعة وصول رفقائهم إلى السلطة في سوريا، وأنّ الحكاية خُتمت من دون القضاء على حزب الله، وأنّ بلبل الوهم كفّ عن الدوران. لكن مَن يكنز حقداً دفيناً على محور المقاومة الذي يطارد فلول التكفيريين ويواصل طرد قوات الاحتلال ويجرّعها يوماً بعد يوم الهزيمة الثقيلة يعاني من شهيّات أكثر سعاراً ومن شططٍ يكبر في ظل الخيبات والإخفاقات. جاءت إجراءات الحصار والعقوبات الأميركية لترفع من رغبة هؤلاء في الكذب. كان يفترض بالانهيار الاقتصادي أن يضرب عمق هذا الحزب، ويجفّف موارده، ويحدّ من قدراته، ويُوقف انسيابه تجاه الجبهات الداخلية والخارجية، ويوّسع لديه مساحة اللايقين وإحساسه بالقلق الوجودي.أعطي الأذن ببدء حرب هجينة ترسم لحزب الله الهشاشة التي لا يستطيع توقع نهايتها. تُقطع الطرقات، تُوصد أبواب المصارف التي تغذي بيئته بالمال، تُغلق سبل العيش، تُقلّص تحويلات المغتربين، تُضرب المؤسسات الإنتاجية، وبعدها ستتوالد الأزمات وتتكاثر لتضغط عليه وتهدد مناصريه بالجوع والعزل. لكن الخطة باء التي ترك الأمين العام لحزب الله أمر تنفيذها إلى وقتها المحدد حملت طابع الحسم «لن نجوع وسنقتل عدونا»!
حزب الله هو الأقدر على استكشاف المهمات الصعبة، وما صنعه من انجازات طموحة يتجاوز الحالة اللبنانية إلى ما يحقق أغلى أهداف شعوب المنطقة المرتبطة بالتحرر من قيود الاحتلال والاستعمار. والسيد نصر الله هو الأشجع في التعبير عن أحلام وتطلعات هذه الأمة وليس فقط مناصريه وأبناء مذهبه، عن طريق جرأته في قول ما يعتقد بأصدق ما يكون القول، وبرفضه الزيف والخنوع والضغوط. لذلك كان جادّاً عندما قرر اتخاذ كل إجراء لكسر الحصار الظالم على لبنان إذا استمرت الأوضاع السياسية والاقتصادية متجهة نحو القعر.
هذا الموقف الشجاع من السيد نصر الله يضيف جديداً إلى الالتزامات التي تتراكم على حزبه منذ أن نشأ، فيما أحزاب أخرى تقف على حافة القضايا الكبرى تستمتع بطعم البطالة. دوي المدافع الاقتصادية يزداد قوة وصخباً وقرباً، ونيران العقوبات تشتد اضطراماً، والشعب الذي أصيب في عمق كبريائه يسأل ماذا أنتم فاعلون؟
هادئ حزب الله في العادة وهو في قمة عنفوانه. يعلم بحاسته البعيدة أنّ أحداً ما يحضّر لمتغيرات اجتماعية نوعية هذه المرة لإرساء معادلة الردع المرجوة. كل جهود السنوات الماضية أخفقت في إيقاف مسار الحزب العسكري فلتكن الأزمة الاقتصادية معضلته وضائقته كما يقول الصهاينة، فهذا سيقود إلى تغيير قواعد الاشتباك في لبنان! لكن الحزب يمضي في مسار «بناء تحت النار» عسكرياً واجتماعياً. تجهيز المخازن بالمواد الاستهلاكية الضرورية يسير بموازاة تجهيز الخنادق والأنفاق وملئها بالصواريخ الدقيقة. المعركة واحدة في بعديها العسكري والاجتماعي وعلى الحزب أن ينتصر كما انتصر في المرات السابقة وإن حملت الاستعدادات الجديدة موجة عنيفة من الانتقادات والتهم والأكاذيب. تشويه صورة حزب الله ليست جديدة. التشويش على علاقاته المحلية والخارجية مألوفة. التشكيك بشرعيته وخرقه للسيادة استيهامات من الصعب معالجة منطقها. فهل كان على الحزب أن يقف مكتوف اليدين على مجموع الاعتداءات الإسرائيلية ولا يواجه بالسلاح همجية المحتلين حتى لا يقال إنّ الحزب دولة ضمن الدولة؟ وهل كان على الحزب أن يدفن رأسه في الرمال أمام خمسين ألف تكفيري في مدينة القصير السورية يتجهزون لاقتحام الأراضي اللبنانية حتى لا يقال إنّ الحزب خرق السيادة اللبنانية وتجاوز الحدود وانخرط في الأزمة السورية من دون إذن المؤسسات الرسمية؟ واليوم هل على الحزب أن ينتظر الجوع يهدد اللبنانيين فيقف موقف البائس الضعيف ولا يتدخل لكسر الحصار وتفكيك العقوبات حتى لا يقال إنّ الحزب يهرّب البضائع؟ فليقل أهل الضغينة والسوء ما يقولون؟ الحزب لا يبيع الله ليربح لقباً مزيفاً، ولا يتخلى عن كرامات الناس من أجل أن ينتشي بمديح هنا وثناء هناك. شروط الإقامة في منازل الحق تتطلب أن يتغافل الحزب عن وصفه بالإرهابي تارة وبالذراع الإيرانية تارة أخرى، أو «البلطجي والشبيح» مرة والمهرّب أخرى، أو بتبييض الأموال وتجارة المخدرات كما تحلو النعوت لمن يتحول إلى «قط عند قدمي ملكة».
صحيح أنّ حزب الله ما كان بمقدوره أن يفعل ما يفعل لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي والتكفيري واستقدام السلاح المتطور والانخراط في الحرب السورية حتى أصبح جزءًا من معادلات إقليمية، ولا توزيع بطاقات «سجاد» وتوفير السلع الأساسية وربما غداً استجلاب شحنات البنزين والمازوت لتمكين الشعب اللبناني من الصمود، لولا الهشاشة التاريخية للنظام الطائفي. المحرمات في لبنان لم تكن صارمة في يوم من الأيام. الدولة لم تكن لشعبها، والسلطة لا تغادر سراديبها الطائفية المقيتة، والاهتراء تزيد مساحته اتساعاً وامتداداً، والأرض السياسية خريطة غير مستقرة، وجنى عمر الناس جعلها الفاسدون في رمشة عين كعصف مأكول. لكن كل هذه الالتباسات بين دور الدولة المفقود ودور الحزب الحاضر لا يغير من الحق شيئاً. القوانين خُلقت لكرامة الإنسان ولم يُخلق الإنسان لكرامة القوانين! لا يُعاب حزب الله عندما يستقدم السلاح لمواجهة الغزاة عندما تتخلى الدولة عن حماية شعبها ويحاصرك المستكبرون لتخضع لشروطهم. ولا يُعاب حزب الله عندما يأتي بالطعام وكل سلعة ضرورية عندما تفشل الدولة في تأمين احتياجات الناس أو تنهار بفعل تصادم أركانها أو حين يضعك المتجبرون بين خيارين إما الجوع أو الخضوع والقبول بشروطهم.
عندما تنجح الضغوط الاقتصادية في دفع البلد إلى الانهيار وتقف برامج المساعدات الخارجية، وعندما يتم الضغط على العملة المحلية ويتحرر سعر الصرف حتى يصل إلى مستويات مجنونة، وعندما يُمنع اللبنانيون من تشكيل حكومة إلا عندما يلتزمون بتوصيات صندوق النقد الدولي التي تهدف الى الإمساك بمقدرات لبنان القائمة والمتوقعة، وعندما تصعّد أمريكا و وحلفاؤها من مستوى الحرب النفسية والإعلامية والسياسية لإجبار اللبنانيين على ترسيم الحدود البحرية وفق التصور الإسرائيلي وتوطين اللاجئين الفلسطينيين، وعندما يتم تقويض أسس الاستقرار الاجتماعي والأمني والسياسي فلمَ لا يذهب حزب الله إلى الخطة باء؟
ليس حزب الله من يرسم النهاية المفجعة للدولة، بل أولئك الذين لا يريدون للدولة إلا أن تدخل أغوار التهلكة ليزدادوا ثراء على ثرائهم. مشكلة حزب الله أنّه صفع أولئك الذين يلهثون وراء مصالحهم الطائفية والحزبية والخاصة بتلك الحقيقة التي عكست وقوفه إلى جانب اللبنانيين في ويلات الحرب واليوم في ويلات الجوع! وعرّت جنون عظمة مَن في السلطة ويمين قدرتهم الكاذبة على اجتراح الحلول الدفاعية والاقتصادية لكن سلاحهم ما نزلوا به معركةً في وجه الإسرائيلي أو التكفيري ولا مالهم بذلوه ليسدوا به حاجة مسكين.
وأستأذن القارىء في الخروج على مألوف عادتي لأقول بعض كلمات إزاء زوبعة هوجاء ثارت حول مقابلة أجريتها مع قناة (فرانس 24) حيث ورد على لساني أنّ التهريب «جزء من عملية المقاومة» وذلك في سياق الحديث عن كيفية تفكيك عقوبات قيصر التي تضرر من جرائها اللبنانيون والسوريون على حد سواء، لا أنّ المقاومة تقوم بفعل التهريب. ولم يكن سياق الحديث يرتبط بذاك التهريب الذي يجرّم عليه القانون وإنما في إطار البدائل التي يذهب إليها الناس عندما يتعرضون لضائقة معيشية وحصار خانق في ظل عجز الدولة عن تأمين الحلول الحاسمة. ولعلي أنبّه إلى أنّ مقصودي من هذه الكلمات لا الرد ولا الدفاع لأنّ كل كلمة تصدر منّي هي سجل ثابت عليّ أمام الله والمستمعين والمشاهدين والقارئين. وكنتُ سلفاً قد قدّرت تبعات ما أقول. سواء ذلك الذي نُقل أو ما أغفل نقله عمداً في هذه المقابلة. مؤمن أنّ أي رأي أبديه يقبل الصواب والخطأ ولا يستعلي على المناقشة والنقد. ولم أمارس في ذلك كله إلا الشفافية في مقاربة الموضوع والصدق في انتمائي إلى مشروع المقاومة الذي لا يحيد عنه إلا خبيث المحتد. ولأنّ الخوف، من دميم الصفات ومكروهها، فلا أسمح لنفسي بالانغماس فيه.
وعليه إنّ مفهوم «التهريب» لا يحمل بنفسه ذمّاً وقدحاً واستنقاصاً، ولا مدحاً وتنويهاً وإطراء، وإنما هو مفهوم محايد. يكون مذموماً إذا اشتمل على غرض باطل، ويكون ممدوحاً إذا قارب الحق ولازمه. ولكن الناس يلوّنون المفاهيم بلون ما في نفوسهم ويقيسون الأمور بمقياس طباعهم وأهوائهم. ولهذا لم أكن لأخشى من استعمال المصطلح نفسه الذي سئلتُ عنه، مع يقيني أنّ كل فرد سيرى من المفهوم جانباً لا يراه الآخر. ولقد جادلني البعض بأنّ إتيان المقاومة بالسلاح وخلافه لا يسمى «تهريباً» وإنما «نقلاً». وهذا لا يؤكد إلا أنّ كل واحد منّا اعتاد أن ينظر إلى الأشياء من خلال إطار فكري يحدد مجال نظره ويُنكر ويستهجن أي شيء لا يراه من خلال ذلك الإطار. كما أني لستُ ناطقاً باسم الحزب حتى أتعهد الالتزام بما يتدرب عليهم الدبلوماسيون في مواقفهم بناء على أنّ «الدبلوماسية هي فن معرفة ما يجب أن لا تقوله»! فلستُ في هذا الموقع لاحتجب بالصمت أو أقيّد نفسي بجمل مقتضبة حمّالة أوجه، وإنما أزاول المرونة بعيداً عن أي محظور فيما اعتنقه من قناعات سياسية.
ولكنّ المسألة في ظني أكبر من رأي أُبديه أو جملة جرى استغلالها وتحريف دلالاتها، مع ما أنا عليه من دور محدود لا يتعدى الكتابة السياسية والنشاط الإعلامي الذي يقوم به أمثالي من أساتذة الجامعات. فمن لا يستطيع فهم ضغوط الصراع على المقاومة ومحورها وهذا الانزياح في موازين القوى الذي يهدد صدارة أمريكا ونفوذها وقوتها وكل من يدور في مدارها، لن يهتم ببناء تصور لما يجب أن تكون عليه أوضاع الجغرافيا وأوضاع الناس في بلدنا وبلدان عربية شقيقة أخرى.
إنّ الكلمة التي أصبحت عند البعض كقميص عثمان هي بالنسبة إليّ ليست سوى إجراء يجب على الناس أن تقوم به لكسر الحصار الظالم على لبنان وسوريا. بل هي مدخل لكسر الفكرة الاقتصادية الرأسمالية التي تقوم على الاحتكار وبأن لا طريق لسد جوعنا وحاجاتنا إلا الغرب الذي يمعن في تضييق الخناق أكثر فأكثر فيما بعض وكلائه اللبنانيين يعطونه المبرر ليستمر في جرائمه. «التهريب» الذي قصدته هو أن تعيد بلداننا وشعوبنا تعريف نفسها اقتصادياً واجتماعياً بعيداً عن وصفات الذل الدولية وسياسات الاستجداء وقبل أن يقع بلدنا في عهدة انتداب من نوع جديد تصادر فيه أصوله وموارده وثرواته بل قبل أن يصل جحيم الجوع إلى بطون أطفالنا ليتحول المشهد الداخلي بعد ذلك إلى لعبة أشد هولاً من لعبة القبائل.
وما كنتُ لأقول ما قلته إلا لأنّ الجيبولتيك، الذي لا يهمّ الرازحين في زوايا الظلمة الطائفية الضيقة، يجيب عن سؤال المستقبل الذي لن يكون إلا لأهل هذه الأرض الممتدة من البحر إلى البحر. وإلا «لأنّ الخرائط، كما يقول المؤرخ الفرنسي فرنان بردويل، هي التي تروي القصة الحقيقية»