عمر معربوني – باحث لبناني في الشؤون السياسية والعسكرية
اربعة عشر عاماً مرَّت على مواجهة تموز 2006 بين الكيان الصهيوني وحزب الله والحزب في حال تصاعُد مستمرّة لجهة امتلاكه قوّة ردع مُختلفة عن تلك التي امتلكها حتى سنة 2006، مقابل خشية إسرائيلية جديّة تؤكّدها التقارير الصادِرة عن مراكز الأبحاث الصهيونية والتصاريح والسِجالات الدائرة بين أقطاب الكيان الصهيوني، وآخرها وليس أخيرها بالطبع ما صرَّح به رئيس أركان جيش العدو السابق بني غانتس حيث قال إن سياسة بنيامين نتنياهو أدَّت إلى تآكُل قوَّة الردع الإسرائيلية، وقضت على العقيدة الإستراتيجية التي وضع أُسُسها ديفيد بن غوريون، والتي قامت على أساس الردع والحَسْم في الحروب، وهو يقصد بالطبع حروب الحركة السريعة التي باتت مُجرَّد ذكرى لا مجال للعودة إليها في مرحلة الحرب اللا مُتماثِلة واللا نمطية، أمر آخر أشار إليه غانتس حيث انتقد سياسة نتنياهو في التصريح وإعلان الهجمات الإسرائيلية، قائلاً إنه يجب العمل أكثر والتحدّث أقل، والعودة إلى سياسة ضبابية في هذا السياق.
تصريح آخر لمسؤولٍ صهيوني بارِزٍ هو رئيس الإستخبارات العسكرية الأسبق أهارون زئيفي فركاش الذي قال إن الجيش لم يستعد قوّة الردع وإننا في ورطةٍ خطيرةٍ في مواجهة حماس والجهاد الإسلامي، فكيف إذا كان الأمر مُتعلِّقاً بحزب الله؟.
حتى سنة إلى الوراء كان رِهان قادة الكيان الصهيوني قائماً على حتميّة سقوط الدولة السورية وانكسار حزب الله كنتيجةٍ لهذا السقوط، إلاّ أنّ الأمور بدأت تأخذ منحى مُختلفاً بعد تحرير الجنوب السوري والعودة مُجدَّداً إلى الخطط السابقة التي تمّ إعدادها بعد هزيمة جيش العدو في مواجهة 2006.
وقبل الدخول في تعريف الخطط الصهيونية قد يسأل البعض لماذا استخدمتُ مُصطلح مواجهة تموز في حين أن السائد بمُقاربة الموضوع هو استخدام مُصطلح عدوان تموز.
السبب في استخدامي لمُصطلح المواجهة أنّ ما حصل حينها كان في الحقيقة كناية عن اشتباكٍ حقيقي بين قوَّتين تمتلك فيها “إسرائيل” إمكانيات هائلة في السلاح والتكنولوجيا وقوَّة التدمير، في حين أن حزب الله حينها لم يكن يمتلك إلاّ أسلحة متواضِعة بما فيها الصواريخ التي لم يستخدم منها من الطراز الخفيف قصير المدى إلا حوالى 1500 صاروخ، ومن الصواريخ ذات المدى المتوسّط سوى العشرات ومن الطراز الثقيل سوى صاروخين، لتأتي النتيجة غير مُتوقَّعة لقادة الكيان الصهيوني ولكل مَن دعمه وهو ما أجبر الكيان على الاعتراف بإخفاق الجيش الصهيوني بتنفيذ المهام الموكَلة إليه عبر العجز عن تحقيق الأهداف المرسومة، مع الإشارة هنا إلى أنّ مُصطلح الإخفاق الذي جاء في تقرير فينو غراد أتى للتخفيف من حدِّة الهزيمة، لأنه وبحسب المُتعارَف عليه فإن أيّ جيش لا يُحقِّق أهداف عملياته سوى الدمار والقتل لا يمكن اعتباره إلا جيشاً مهزوماً.
الآن ومن جديد عاد القادة الصهاينة إلى الحديث عن خطط ستُغيِّر معالم المواجهة إنطلاقاً من مقولة: “مُقاتِلة إف – 16 تُقاتِل إلى جانب بندقية إم – 16”. إذا ما نظرنا إلى المقولة لوجدناها مقولة واعِدة تنطلق من تجارب الجيش الصهيوني وآخرها محاولات الدخول إلى قطاع غزَّة وقبلها محاولة الدخول إلى جنوب لبنان حيث عجزت المدرّعات الصهيونية عن الثبات في المواقع التي اخترقتها والتي سمحت المقاومة في لبنان وفلسطين أصلاً اختراقها لوضعها ضمن الاستهداف.
الحديث ضمن الدوائر الصهيونية يدور هذه الأيام عن “خططٍ ثوريةٍ” حيث تخضع القوات البرية لجيش العدو لعمليات تحسين وتطوير وإضافة فِرَق قتالية خاصة، واعتماد إستراتيجية المعركة المُشتركة حيث يتمّ القِتال فيها من باطن الأرض ومن فوقها والاستخدام المُكثَّف للحرب الإلكترونية والقتال في الشوارع واستخدام أسطح الأبنية ، بالإضافة إلى تطوير فِرَق الهندسة الميدانية للتعامُل مع الأنفاق والمخابىء التي أنشأها حزب الله إلى جانب تزويد قوات الإقتحام بالمعلومات الإستخباراتية الدائمة عبر العملاء.
ويبقى أنّ أخطر ما يمكن أن يُقدِم عليه العدو هو تنفيذ عمليات اغتيال مُكثَّفة عبر العملاء لقادة المقاومة في قراهم وأماكن تواجدهم، وتنفيذ عمليات إنزال لتقطيع أوصال المناطق وقَطْع طُرُق تحرّك وإمداد المقاومة، ولا أفشي سرّاً إن حدّدتُ المناطق التي يمكن أن تُنفّذ فيها عمليات الإنزال، فهو أمر مكشوف للمُخطّطين في المقاومة وللخُبراء أيضاً، فعلى المستوى الجغرافي سيسعى العدو إلى تنفيذ عمليات إنزال في منطقتين يضمن من خلالهما عَزْل مناطق تواجد المقاومة في الجنوب والضاحية والبقاع، وأعني بهما المنطقة الممتدّة من تلال خلدة جنوب بيروت وصولاً حتى مشارف مدينة صيدا، ومن المنطقة الممتدَّة من تلال راشيا في البقاع الغربي وصولاً حتى تلال المصنع وهو المعبر الحدودي الرئيسي بين لبنان وسوريا.
وعليه فالحديث عن هذه الإجراءات والتدابير عَبْر وسائل الإعلام وفي التصريحات وإنكشافها الطبيعي في عقول المُخطّطين والخُبراء يُفقِدها عنصر المُفاجأة الذي يحتاجه العدو لتحقيق نصرٍ كاسحٍ وسريعٍ بات برأيي مُجرَّد أمنية من الصعب تحقيقها.
وإن كنا تحدَّثنا سريعاً عن الوضع الحالي لجيش العدو انطلاقاً من نظرة قادة سابقين عاشوا التجربة، فمن المهمّ التذكير أنّ أغلب هؤلاء ينطلقون من غاياتٍ سياسيةٍ من مواقع مُعارِضة لبنيامين نتنياهو وهو ما يجب التوقّف عند من دون البناء عليه بالمُطلَق رغم صحّة الانتقادات ودقّتها بما يرتبط بتوصيف قوّة الردع الصهيونية المُتآكِلة.
في المقلب الآخر يبدو حزب الله مُمسِكاً بعناصر المواجهة، وبات أكثر من أيّ وقتٍ مضى مُمتلِكاً لقدرات ردعٍ باستطاعتها تهديد وجودّية الكيان الصهيوني وليس تحقيق الهزيمة بجيشه فقط، ولتأكيد هذه النقطة يكفي أن نتذكَّر أن حزب الله استخدم خلال مواجهة تموز 2006 ما يُقارِب الـ1500 صاروخ من الطراز الخفيف، وحوالي 70 صاروخاً من الطراز المتوسّط وصاروخين فقط من الطراز الثقيل، استطاع من خلالها أن يُحدِث خللاً في أصل الفكرة التي قام عليها الكيان وهي الهجرة إلى فلسطين، حيث استطاع بهذا العدد من الصواريخ أن يُجبِر نصف عدد سكان المُستوطنات على ترك منازلهم والهجرة إلى وسط فلسطين المحتلة وأجبر النصف الآخر على البقاء في الملاجىء طيلة 33 يوماً، في حين أنّ عدداً كبيراً غادر بشكلٍ نهائي إلى بلدانٍ مختلفةٍ خارج فلسطين المُحتلة.
وفي تقرير للوكالة اليهودية حيث أورد رئيسها سالي مريدو أن أرقام الهجرة إلى فلسطين تراجعت بشكلٍ كبيرٍ منذ العام 2000 وهو عام انسحاب الجيش الصهيوني من لبنان، مقابل ارتفاع كبير في عدد المُهاجرين بشكلٍ عكسي إلى خارج فلسطين، والسبب هو تنامي حال فقدان الثقة بالوضع القائم والمخاوف الأمنية، وهو ما يعمل حزب الله على الاستثمار فيه منذ مواجهة تموز التي أحدثت ضرَراً بالِغاً في منظومة الردع الصهيونية، خصوصاً أنّ حزب الله بات يمتلك من الخبرة والسلاح ونوعيّته ما يجعل أية مواجهة قادمة شديدة التعقيد على الكيان الصهيوني، وهو الأمر الذي يمكن أن يُعجِّل في حدوث المواجهة بنفس الوقت الذي يمكن اعتباره مانِعاً لحدوثها.