الدكتور روبير بشعلاني | استاذ جامعي وباحث .
ارتباطاً بموضوع القرابة الذي حاولنا باختصار شديد تناول هيكله العام امس، نقارب اليوم مفهوم الفساد المرتبط بنيويا بالمفهوم السابق.
يصوب التيار “الاصلاحي” على موضوع آخر هو موضوع الفساد.
وعندما نحاول ان نقارب الفساد في اطروحات هؤلاء الاصلاحيين العرب فأول ما يصدمنا هو غياب تعريف المفهوم لديهم والحرص على الاكثار من التعبئة حوله كما لو كان بديهياً ولا يحتاج الى تعريف. غموض مشغول على الاغلب.
فبالرغم من كثرة الاختصاصيين والمثقفين والجامعيين ومدعي المعارف والعلوم في صفوف هذه المدرسة، ومن كل المشارب الايديولوجية ، يصدمك هذا الفقر بمعالجة الموضوع وتحديده وتعريف جوهره واسبابه وطريقة اشتغاله والمستفيدين.
فبقدر الغنى في تركيز مشاريعهم السياسية على مكافحة الفساد بقدر ما تقع على فقر وندرة ملفتة في تعريفه.
غموض متصل ربما بنوع الجمهور-الهدف المطلوب اثارته بشكل غير مباشر.
اسباب ذلك ما تزال غامضة نوعاً ما. فهل الغموض مقصود لاسباب تعقد الظاهرة ذاتها؟ او هل هناك ندرة بادوات التحليل التي تتناول هذه الظاهرة؟ هل المواد الأجنبية التي تتناول الموضوع قليلة وغير مترجمة؟
هل يخشون ان يقودهم تعريف الموضوع بالممارسة الى انفجار جبهتهم خصوصا عندما يصلون الى تحديد القوى المستفيدة ؟ أم هل الحرص على الغموض مطلوب لكي يمكن نقل التصويب فيما بعد الى هدف اخر وفقا لحاجات الناهب الدولي؟
على اي حال ، وايا كانت اسباب الغموض التي تلف الفساد عند هذا التيار فإن العمل على نصوصهم يسمح بالتوصل الى ما يشبه التعريف للظاهرة.
فمن خلال ممارساتهم ومعاركهم يمكننا ان نستنتج انهم يعرفونه من خلال مستويات ثلاثة:
استعمال المال العام للاثراء غير المشروع
الصفقات والعمولات المرافقة والهدر والتبذير( استعمال غير رشيد للموارد)،
الزبائنية والواسطة في التوظيف والمعاملات الادارية.
فهم يعتبرون ان الازمة المالية والاقتصادية سببها نهب المال العام والهدر وسوء ادارة وخدمات توظيف غير مبررة. سببها الحكم غير الرشيد.
مباشرة ندرك انهم يضعون المشكلة في اطار قانوني-اخلاقي: فالفساد اذن سلوك غير عقلاني وغير مشروع ، غير مشروع لأنه استعمال شخصي لمال عام. وغير عقلاني لانه يبذر الموارد العامة بدون الالتفات لتجديدها وترشيد استخدامها.
وفورا يصبح المستهدف هو “كلهم” اي كل من يحكم حكماً غير “رشيد”.
المستهدف عندهم هو “الحاكم الغبي” والطماع.
هو غبي لانه يقودنا نحو الهاوية والافلاس بدون مسؤولية من اجل سرقة المال العام لحساب شخصي.
وبهذا التعريف يتبين ان الصورة التي يملكون عن الدولة والاقتصاد والتي تشكل اساس نقدهم للظاهرة هي صورة الدولة المثالية الرأسمالية الغربية.
لا الدولة الممسوكة من قبل “شركاء” في المحاصصة. ولا الدولة التي لا تدار بالقانون والمؤسسات بل بالتسويات بعد نزاعات طويلة.ولا الدولة التي لم تنتج بعد فرز اجتماعي داخلي بل عن “مجد” اعطي من قبل المستعمر لاحدى قراباته الروحية.
يهاجمون صورتهم عن الدولة لا الدولة الحقيقية الموجودة فعليا امامهم. وهذا هو ربما سبب تكرار فشلهم منذ عقود وعقود. وهذا هو ربما سبب خيبتهم من “الناس” الذين لا يتحركون وراءهم ووراء شعاراتهم وتوصيفهم.فالناس لا تشاركهم توصيفهم بالحقيقة.
الناس تعرف بالممارسة تاريخ معاشها وتعرف تركيبة موارد مُلْكُها اليوم وكيف توزع على “الشركاء المحاصصين ” الذين ليسوا الا ممثلين لحصص قراباتهم الواسعة.
الناس تعرف بحسها السليم ان الريع هو اسباب معاشها وليس ملكا عاما لدولة مفترضة.
الناس تعرف ان ممثليها ليسوا بهذا “الغباء”. فهم يعرفون كيف يطالبون بحصص قراباتهم حسب اوزان اجتماعية دقيقة جدا. وهم يعرفون كيف يوزعونها على رعاياهم بما يضمن معيشتهم وولاءهم.وهم من الذكاء بحيث يعرفون حدودهم الشخصية وعدم تخطي مصلحة القرابة ككل.
الناس تعرف ان ممثليها يتمتعون بكفاءة عالية في حساب حصتها والمطالبة بها وتوزيعها على شكل عقود ومجالات عمل وتوظيف.
الناس تعرف ان تركيبة الناتج الاجمالي عبارة عن ريوع( مداخيل الطبيعة) توزع على الجماعات المنتظمة اجتماعيا بقرابات متحدة.
فما يعتبره “الاصلاحي الاورومركزي” فساداً لا يعدو كونه طبائع معاش الناس وشرط بقائها واعادة انتاجها.
ولهذا السبب بالذات يعمد الاصلاحي الى عدم تعريف الفساد لكي لا يصدم جمهوره بالحقيقة. فهو لا يخوض حربا ضد افراد مجانين فاسدين بل ضد طبائع المعاش وضد نمط معاشي بنيوي قوي له تاريخ طويل وراءه.
ولهذا يخفي على جمهوره معركته المستحيلة ويقدمها على انها معركة تشبه الجمهور المطلوب اثارته ضد مجتمعه ودولته لتدميرها خدمة لمصالح قوى المركز الرأسمالي الغربي.
ان الغموض المشغول حول الفساد هو اذن عمل واع وليس صدفة او مجرد تقصير. فهم لا يريدون تعريف الفساد لأن تعريفه سيضعهم في سياق معركة مع طبائع معاش الناس لا مع فئة قليلة غبية وسارقة.
فهم يخوضون معركة ضد المجتمع ككل.
ويحاولون بذلك طمس حقيقة المشكلة.
فالمجتمع مسجون في ماضيه. سجنه المستعمر بهدف نهب موارده وثرواته. هذا هو سبب المشكلة وليس “الفساد”. المشكلة في بنية التبعية لا في اقلية حاكمة يحلم الاصلاحي باحتلال مكانها. لأنه ذكي وصاحب يد نظيفة. فالمسألة عندما تكون بنيوية وموضوعية تخرج عن اطار الغباء والذكاء والاخلاق الحسنة وغير الحسنة.
المجتمع مسجون بماضيه وهو لا يخرج من الماضي-السجن بالشغل على نفسه بل بالتخلص من السجان.