كتاب الموقع

وِلفي شاري الموت لابس عسكري .

العميد الركن ناجي الزعبي | باحث اردني في الشؤون السياسية والعسكرية .

كنت استقل سيارة السرفيس لانني قررت ” ان ادلل نفسي ” فقد ترفعت للتو من رتبة مرشح الى رتبة ملازم , ولذا فمن اللائق ان اتخلى عن الباص , ولو لمرة واحدة ، واستقل السرفيس بالطبع , وليس التاكسي نظراً لعدم قدرتي على تحمل هذا الترف دفعة واحدة .

برغم الزيادة التي طرأت على راتبي الذي سيبلغ بعد الدبورة -النجمة – اثنان وعشرون دينارا” وستمائة فلس بالتمام والكمال , لكني وبرغم ذلك لا استطيع ان اتجاوز الخطوط الحمراء , اذ نظرا للظروف المادية الصعبة سيكون والدي بانتظار الراتب كاملا غير منقوص وانا ساتدبر امري طيلة الشهر كالمعتاد .

احتللت مقعدي بالسيارة , دون ان التفت للفتاة التي كانت تجلس بالمقعد المجاور , لكنني احسست بانها قد توترت , فقد انكمشت بالمقعد الاوسط , اذ كان على يمينها رجل كهل يخرج من جيبه علبة ” تتن ” تبغ ؛ بتمهل ليشعل لفافة , لذا فقد حوصرت المسكينة , وبالخفر النسائي المعتاد , جلست بطريقة مشدودة القدمين , زائغة النظر , محدقة باللاشئ ربما .

كان الرجل الكهل بجوارها مستمتعاً بطقوس تحضيره لفافة التبغ ، وبتمهل لافت ، وكنت استعد لاستنشاق رائحة الهيشي – نوع من انواع التبغ المحلي – الكريهة

كنت بطريقي للهاشمي الشمالي لزيارة شقيقتي التي تقطن هناك مع زوجها ، كانت اقرب الناس الى قلبي , واقربهم جغرافياً اليَّ وبودي ان تشاركني زهوي , وفرحتي الطاغية بالدبورة التي تعلقت على كتفي .

احتل السائق مقعده ثم نظر للخلف فناولته القروس الستة بلا مبالاة واكتراث فأنا الان اتصرف كضابط , وستة قروش لاتعنى له شيئا او هكذا كنت اودُّ ان ابدو ، استدار السائق وانطلقت السيارة , واخذ يعبث بمؤشر المذياع .. لينطلق فجأة صوت سلوى وهي تصدح باغنيتها الشهيرة لتي كانت تذاع للمرة الاولى .

خسى يا كوبان ما انت ولف لي ولفي شاري الموت لابس عسكري
وأنا ارتدي بزتي العسكرية التي كنت قد اعددتها بعناية وتؤدة وعلقتها بعامود خيمتي واستلقيت على سريري الحديدي ارقبها بسعادة غامرة والاحلام تكاد تفر من جنباتي وخيالاتي بعد ان احضرتها من ابوعماد مكوجي سريتي بنفسي والذي قدمها لي بفخر مهنئاً اياي متمنياً ان يراني املأ كتفي نجوماً متمتماً روح الله يوفقك واشوفك ملازم اول
قلت : ليش مكثرها ابوعماد
لم يلتقط الفكرة ابوعماد ؟
وكرر
بتستاهل ناجي افندي .

استمرت الاغنية تتردد في مذياع السيارة مما زادتي زهواً وفخراً .

تململت في مقعدي لعل ركاب التكسي يتنبهون لزيي العسكري و للدبورة ، لكن كان من الواضح ان لا ترفيعي , ولا دبورتي ولاصوت سلوى واغنيتها التي الهبت مشاعري يشغل بال الركاب كثيراً , ولا حتى قليلاً , فالفتاة التي تحتل المقعد المجاور لي لا زالت منكمشة تحدق باللاشيئ , والكهل منشغل بلفافته اما ركاب المقعد الامامي فهم منشغلون بحديثهم الخاص .

ازداد بطء السيارة نظراً للصعود الحاد لاعلى الجبل ، مما ضاعف سعادتي ، لعل المارة يرون الدبورة ويستمعون لسلوى ويعجبون بزيي ( ووسامتي ) كما كنت اعتقد والتي كنت اعتقد انها لا تضاهي …فقد كنت اعتقد انني احد محاور الكون الجميل وعنوان زهوه وفرحه .

اطلت علينا يافطة عبده نقاوة في نهاية الصعود الحاد على اليمين من الشارع ، مما يعني انني اوشكت على الوصول لمنزل شقيقتي .

كانت سلوى لا زالت تردد الاغنية وانا منتشي ، ارقب النجمة الجميلة المستقرة على كتفي بطرف عيني ثم اراقب المارة لعلهم تنبهوا لوجودي ولزيي الجميل , ولانني انا المعني بما تصدح به سلوى وخصوصاً انني الان ضابط برتبة ملازم ، فليس اقل من تنبه المارة على الاقل , وليس كل من يقطن جبل الهاشمي ، كما كنت احلق بخيالي

لكن اهتمامي الاكبر والامنيات التي جالت بخاطري وهي ان تراني حبيبة القلب وان تستمع بذات الوقت لسلوى وهي تردد مرات ومرات :

ولفي شاري الموت لابس عسكري

وكاد ان ينخطف قلبي عند تلك اللحظة ،
كنت اتخيل عيناها الحبيبيتان على قلبي وكيف سيكون بريقهما والقهما عندما تراني ، وتري كيف تنعكس اشعة الشمس الذهبية عن سطح نجمتي وكيف ستفخر بالوسام الذي تعلق على صدري ، ثم مالذي ستقوله لرفيقاتها عندما تراني ( افيض وسامة ورجولة واتيه بزيي وشارتي المدفعية على ذراعي) كما كنت اعتقد وكما جال ببالي في تلك اللحظات
ثم الذي سيبهرها اكثر هو بريتي الكحلية نظراً لصنفي كمدفعي
وهذا الصنف من الاسلحة مشهور بصرامة انتقاءه للضباط اذ يقتضي الامر بان تكون سويتهم مميزة
وهي لابد ان تعي ذلك ” فقد تربت ونشأت بوسط عسكري …كنت افكر بها ، اقصد حبيبتي ، التي كانت تسكنني ، تتعربش في احداقي وهدب عيوني فلا شاردة الا وتطل عبرها ولا واردة الا وطيفها ينطوي عليها .

استمر هذا البوح وهذه المكاشفة الوجدانية الذاتية واستمرت اطلالة صوت سلوى والافكار تزدحم بداخلي يقول :

بعيون صقر للقنص متحضر

الله، هي اذاً تصفني انا بالذات ، فلا يوجد بجبل الهاشمي في تلك اللحظة ملازم ترفع للتو ويرتدي زيه العسكري وسلوى تغني له ولزيه وتصفه تارة بالصقر وتارة بالمغوار شاري الموت ( ولابس عسكري ) سواي , لابد انها تصفني انا , اذا علي ان اتوجه لواد السير لاراها , لقد حزمت امري واتخذت القرار .

لكنني تريثت قليلاً وتساءلت في نفسي ، ترى هل ستمكنني موازنتي من استقلال السرفيس لواد السير ؟
ثم لو وصلت هل سأجدها ؟
وحتى لو وجدتها دون ترتيب مسبق كالعادة , كيف سنلتقي واين ؟
ثم لو طلبت حلوان الترفيع , ماذ يمكنني ان ابتاع لها , وكل ما املكه لا يفي باجرة السرفيس ؟

ويعود صوت سلوى ليستعيدني من خيالاتي
وهي تردد

نشمي شديد البآس سيفه فيصلي….مقدام باع الروح والله مشتري

وانا بلا سيف ولا مسدس
لكن باقي المواصفات تنطبق تماماً علي فأنا لابد مقدام يبيع روحه ليشتري المجد ،
الدبورة على كتفي تشهد وزيي العسكري ايضاً
ترى ، وتطوف التساؤلات هل امضي اليها ؟
ترى , ما الحل لو التقينا ، كيف سادعها تستمع لسلوى وتدرك كما انا مختلف ، انا ولفها شاري الموت لابس عسكري ، وبرغم انني لا املك اجرة الطريق الا ان ذلك لا ينفي انني شاري الموت لابس عسكري , ترفع للتو .
ازدحمت التساؤلات
وسلوى تخطف قلبي مرة اخرى وهي تقول

هذا وليفي فارس ومتحفلي….كل النشامى تقول صوله حيدري

ووسط هذا الزحام والصخب أيقظني صوت سائق السرفيس
وهو يتسائل
ناجي افندي ما بدك تنزل وصلنا اخر محطة ؟
طبعاً تمكن من معرفة اسمي من لوحة الاسم المعلقة على صدري
وافندي هو لقب الضابط من رتبة ملازم
صحوت
وترجلت من السيارة وكان صوت سلوى يخفت رويداً رويداً
واحلامي وخيالاتي تزداد افولاً
مع وقع اقدامي التي كانت تاخذني بعيداً عن التاكسي وعن صوت سلوى ، كانت احلاماً عريضة جداً تتدفق بلا حدود ، وولعاً لا متناه للحياة وبها ، ولتدفق الحياة والحيوية وصخب الألوان التي تفيض بوجداني يشعرني بنشوة فائقة .
مضيت مبتعداً بخطوات واثقة ، لكنني كنت اخطف نظرة للدبورة تارة يميناً واخرى يساراً وازداد زهواً
واردد بداخلي : تخسى ياكوبان ما انت ولف لي
ما علينا فانا شاري الموت لابس عسكري ، برغم عدم امتلاكي اجرة السرفيس لواد السير .

لكن الحب يغمرني والتوق للحياة يفوق كل احاسيسي والامال الكبيرة تتفوق على واقعي ووضعي المادي المزري
تتخطاه آمال لا تحد من السعادة والغبطة والتفوق

رعاك الله ياعرار حين قلت
ليت الوقوف بواد السير اجباري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى