الجنرال .. مهندس التحولات الكبرى
عمر معربوني | رئيس تحرير موقع المراقب
خير دليل على عظمة الرجل ما أُطلِقَ عليه من القاب وصفات أوردها الإعلام المعادي لمحور المقاومة ، حتى لو كانت الألقاب والتوصيفات فيها الكثير من الذّم والتقبيح الاّ انها تعبّر عن مدى الرعب الذي زرعه في صفوف الأعداء ، وحجم الإنجازات التي اعاقت تنفيذ المخططات في ابعادها الإستراتيجية وليس فقط في الأبعاد التكتيكية .
قيل عنه الكثير واستنزف الكلام عنه الآف الصفحات ومئات التقارير المكتوبة والمُصوّرة ، اتهّمته بكل أنواع الإتهامات بحيث اصبح محور قلقهم ومصدر ذعرهم .
عن الجنرال قاسم سليماني اتكلّم ، الرجل الذي استشهد دفاعاً عن فلسطين ، وهي المسألة التي تثير الكثير من الجدل عند طرحها ، فيقول البعض كيف استشهد دفاعاً عن فلسطين واغتالته أميركا في العراق ؟
في الشكل يبدو التساؤل مقبولاً ، لكنه في المضمون يحتاج الى سبر اغوار الجنرال الذي تربّى على مبادي الثورة الإسلامية وختم حياته وهو قائد لقوة سُميّت بالقدس في إشارة منذ تشكيلها ان الهدف واضح والمسار أوضح بأن القدس هي الهدف وأنّ المسير للوصول اليها محتوم مهما كلّف من تضحيات .
كان الجنرال سليماني مُدركاً لطبيعة الهجمة على المنطقة ، واستطاع مبكراً ان يُعرّف الهجمة بأهدافها وادواتها التي تمّ تغليفها ب ” الثورات الاجتماعية ” او ما اطلقوا عليه زيفاً ” الربيع العربي ” .
وكان مدركاً اكثر ان الجماعات الإرهابية هي حصان طروادة الأميركي التصنيع والإدارة، والخليجية التمويل ، ما سهّل تقدير الموقف لجهة التمييز بين الإصلاحات الاجتماعية المشروعة للشعوب ضمن دولها ، وما يستهدف هذه الدول من عمليات تفتيت وتقسيم .
انطلاقاً من هذا التعريف للأوضاع كان واضحاً ان المعركة هي معركة وجود لمحور بكامله وإنهاء لقضية عادلة هي القضية الفلسطينية ، فالهدف من تفتيت وتمزيق وتقسيم دول المحور كان إخراجها من المواجهة مع الكيان الصهيوني وتحويلها الى إمارات متناحرة الى ما شاء الله وتصبح ” إسرائيل ” سيد المنطقة والآمر الناهي فيها .
أدرك الجنرال قاسم سليماني منذ البداية أنّ المواجهة ليست تقليدية وليست نمطية وأن العدو قرّر هذه المرة خوض الهجمة داخل اسوار الدول باستخدام بعض أبنائها المضللين ليشكلوا مواطيء قدَم سهّلت استقدام مئات الآف الإرهابيين من اغلب دول العالم .
انطلاقاً من هذا الفهم لتعريف المواجهة كانت مرحلة تقدير الموقف مليئة بالمصاعب بالنظر الى التفاوت الكبير بالإمكانيات بين دول وقوى المحور بمواجهة قوى الهجمة ، وهو ما فرض وضع استراتيجيا مواجهة شاملة وطويلة الأمد خصوصاً في سورية التي تُعتبر على المستوى الجغرافي عقدة الربط الأساسية ، وعلى المستوى السياسي الأكثر وضوحاً في الموقف المعادي لأميركا وكيان العدو ، وعليه كان لا بدّ من ان يشكل الدفاع عن سورية أولوية في خطط الجنرال سليماني وهو ما كان مجال عمل دؤوب مع القيادة السورية وفيما بعد مع حزب الله .
مع بدايات الحرب على سورية كانت الأولوية هي الثبات في الجغرافيا الحيوية وهي منطقة الثقل الإستراتيجي للدولة السورية والتي تضمنت المدن الكبرى وطرق الربط بينها إضافة الى المنشآت الحيوية كالمطارات والموانيء والقواعد العسكرية الهامة .
هذا التوجه جاء بناءً على تحديات الميدان المستجدة حيث لم يكن ممكناً ان تقاتل وحدات الجيش العربي السوري بنفس الوقت على جغرافيا واسعة ما يسهّل وضعها في الكمائن والإستهداف خصوصاً ان الجماعات الإرهابية أصبحت تتواجد في اغلب الجغرافيا وباتت قادرة على التحرك المرن من أماكن غير معلومة لإستهداف وحدات الجيش معلومة المكان والحركة .
إزاء هذه المستجدات كان الجنرال سليماني واحداً من كبار القادة الذين خططوا وقادوا المواجهة الى جانب قادة الجيش العربي السوري وقادة حزب الله الذي دخل الى المعركة بعد سنة من بدئها عام 2012 .
في نفس الوقت الذي أُتخذ فيه القرار بالتخلي عن عبء الجغرافيا والشروع في إعادة التموضع لتحسين شروط المُدافعة كان الجنرال سليماني يؤيد وبشدة تحديد أولويات المعركة التي تدعم وتحصّن خطة التموضع في الثقل الإستراتيجي للدولة ، ولهذا كانت معركة القصير ومن بعدها معارك القلمون أولوية على غيرها من المعارك لما يشكله بقاء الجماعات الإرهابية في الخط الممتد من القصير شمالاً الى الزبداني جنوباً من مخاطر على حمص وعلى العاصمة دمشق .
في سورية كان الجنرال سليماني على رأس الذين هندسوا خطط السيطرة على المدن الكبرى وطرق الربط بينها لتجنب عزلها وتطويقها بخطط مضادة أتاح تنفيذها وضع الجماعات الإرهابية في حالة استنزاف من خلال القاء عبء الجغرافيا عليها وارهاقها عبر تعريضها للإستهداف المستمر والدائم بعد ان أصبحت معلومة التموضع وتحولت معركتها من معركة استنزاف للدولة السورية الى معركة تحطيم لقواها ومقدراتها .
كانت معركة الأحياء الشرقية في حلب وتحريرها مفتاح العودة الى الجغرافيا الواسعة وهو ما ساعد عبر عمليات البادية الكبرى باتجاهاتها المختلفة الى عمليات عزل وتطويق كبرى للجماعات الإرهابية أحدثت فيها شللاً كبيراً افقدها قدرة القتال المستدام وهو ما تُوّجَ فيما بعد بأولى عمليات الربط بين الحدود السورية والعراقية وافقد الجماعات الإرهابية قدرة التواصل والمناورة وادّى الى تحرير كامل مناطق القلمون الشرقي والغربي وكامل الغوطة الشرقية والغربية وكذلك الجنوب السوري سواء في ريف القنيطرة او ارياف درعا .
وان كنا نتحدث عن سورية كمثال فلا يعني ان ما حصل في العراق لا علاقة له بما حدث في سورية ، فالجنرال سليماني كان اول الواصلين الى العراق بعد اجتياح ” داعش ” لمساحات واسعة وكان اول من استقدم الإمكانيات والمقاتلين واشرف طيلة مدة المعركة على الكثير من المعارك كما في سورية ولبنان ، فالجنرال كان حاضراً بشخصه في كل المعارك المفصلية من حلب الى دمشق الى دير الزور الى البوكمال كما في معارك العراق من معركة أمرلي الى تكريت والفلوجة وناحية الجرف وصولاً الى الموصل وغيرها كما في إقليم كردستان – العراق الذي كان للجنرال سليماني فيه موقف حاسم لجهة الدعم السريع الذي اشرف عليه مباشرة لتأمين مقومات الدفاع عن الإقليم .
وان كنا تحدثنا عن مهام الجنرال سليماني في سورية والعراق فلا احد ينسى وجوده الى جانب قيادة حزب الله خلال عدوان 2006 طيلة أيام المعركة باستثناء أيام قليلة منها غادر فيها الى ايران وعاد مصحوباً بتوجيهات المرشد الأعلى للثورة الإسلامية .
في فلسطين ايضاً لا احد بإمكانه التنكر لبصمات الجنرال ودعمه اللامحدود كقائد لقوة القدس لأهل فلسطين وعاصمتها القدس .
في كل ساحات المواجهة والى جانب المهام القتالية كان الجنرال سليماني ينظر الى البعيد ، فلم يكتفي بتأمين ضروريات المعارك بل خطط لما هو ابعد عبر تجهيز قوى المقاومة والجيش العربي السوري للمعركة الأم والأكبر وهي المواجهة الحتمية مع كيان العدو ، فكل ما تملكه المقاومتين اللبنانية والفلسطينية من عتاد وغيره كان بفضل جهود الجنرال .
في الخلاصة نستطيع الجزم ان مواقف الجنرال سليماني وسلوكه كان سبباً اساسياً من أسباب الصمود والإنتصار وأنّه بتحويل قوى المحور الى جيوش صغيرة ذكية ترك بعد رحيله ارثاً كبيراً من الجهد والخبرة لدى مئات القادة الكبار وعشرات الألاف من المقاتلين الأشداء الذين يقضّون مضاجع العدو ويشكلون له عامل قلق وذعر دائمين .
ختاماً : كما كان الحاج قاسم مهندس التحولات الكبرى كمخطط فذّ ، فهو نموذج عن القائد العقائدي الذي كانت الشهادة أمنية ترافقه يومياً الى ان نالها كما تمنى وأكثر ، وكما كان يُرعب الأعداء في حياته لا يزال يُرعبهم بعد استشهاده ، فما هندسه الجنرال هو بناء قوي الأساسات ، متين البنية ، مرِنُ التعاطي مع الزلازل والتحديات رأس الهرم فيه قوة البأس التي تشكل السيف الذي سيقطع عنق الإرهاب ومن بعده الصهيونية والهيمنة .