د. حسن أحمد حسن – باحث سوري متخصص بالجيوبولتيك والدراسات الاستراتيجية
يحق للأشقاء الإيرانيين أن يفخروا بأنهم قدموا أنموذجاً حقيقياً للثورة بمضامينها المجتمعية والروحية والإنسانية كافة، وبقائها نقية ومبرأة من التشوهات العديدة التي عرفتها الثورات على امتداد القرنين الماضيين على الأقل، ومن حق الثورة الإسلامية في ايران على أنصار الخير والحق والعدل والسلام في كل أنحاء العالم أن ينقلوا للأجيال ما قدمته الثورة للبشرية جمعاء.
وليس للجمهورية الإسلامية الإيرانية فقط، ومن هذه النقطة تأتي كتابة هذه الدراسة انطلاقاً من اليقين بأن واجب كل مثقف ومهتم بتطور الأحداث وتداعياتها أن يساهم بما يستطيع لرد بعض الجميل لهذه الثورة التي حافظت على ألقها، وتمسكت بكل أمانة ومسؤولية بمبادئها التي استندت إليها، وانطلقت منها راخية بظلالها على تطور الأحداث وتداعياتها في هذه المنطقة الجيوستراتيجية من العالم، الأمر الذي ترك آثاره المباشرة على طرائق التفكير التي تحدد طرائق السلوك لدى شرائح واسعة في العديد من الدول والمجتمعات، فقد تمكنت قيادة الثورة أن تفرض احترامها على العدو والصديق، وأدنى درجات الوفاء لثورة بهذا الحجم تكون بشرح مضامينها، وتبيان ما قدمته واضطلعت به من أدوار مشرفة منذ انطلاقتها وحتى الآن، ولعل الحكمة الإلهية شاءت أن يأتي انتصار الثورة بقيادة روح الله الموسوي سماحة الإمام الخميني قدس سره قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، فاستطاعت الثورة أن تحافظ على بعض التوازن الضروري المطلوب في العلاقات الدولية، وعملت بحكمة وصبر على مراكمة عوامل القوة الذاتية التي فرضت تعديلاتها على معادلات الصراع وتوازن القوى إقليمياً ودولياً، ويمكن لأي متابع مهتم أن يتخيل العلاقات الدولية لولا انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وأية قيم وإرادات كانت ستحكم العلاقات الدولية بعد تفرد الولايات المتحدة الأمريكية بالأحادية القطبية لعقود من الزمن؟ وهل كان بالإمكان تصور كسر تلك الأحادية المشؤومة لولا الثورة الإسلامية المنتصرة والصاعدة، والوقوف بكل ثبات في وجه الغطرسة الأمريكية، واليقين بأن إمكانية المواجهة قائمة، وتعتمد بالدرجة الأولى على الثقة بالله وبالشعوب الحية المؤمنة بحقوقها وقدرتها غير المحدودة في الدفاع المشرف، وإعطاء الحافز لبقية القوى الفاعلة دولياً لتطوير قدراتها الذاتية، وتطليق الخوف من القتلة وأنصار شريعة الغاب، وما فرضه كل ذلك من انزياحات جيوبوليتيكية في أكثر من محطة تاريخية أدت إلى تآكل الهيبة الصهيو ـ أمريكية، وفرملة تمدد النفوذ الأطلسي بزعامة واشنطن أفقياً وعمودياً.
المنطلقات والمبادئ:
قد يكون أي باحث إيراني أقدر على الكتابة تحت هذا العنوان، ومهما كان إعجاب الباحث كبيراً بالثورة الإسلامية، إلا أنه قد لا يفيها حقها في دراسة تحليلية مكثفة، فقد تخفى عليه بعض الجوانب المهمة، ولذا استميح السادة القراء العذر سلفاً عن التقصير، وعزائي أن استلهام روح هذه الثورة المباركة وفكرها المشعشع قد يشفعان لي عن التقصير الحتمي، وهذا يقودني للتوقف عند ما أحسبه يندرج تحت عنوان المبادئ التي تبنتها الثورة وحافظت عليها، ومنها:
1- احترام إنسانية الإنسان:
غني عن القول: إن قائد الثورة سماحة روح الله الخميني قدس سره قد استمد مصادره الفكرية من كتاب الله وسنة نبيه الكريم(ص)، ونهج آل البيت والأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين، ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليتأكد أن أحد المبادئ الأساسية التي اعتمدتها الثورة وتمسكت بها قولاً وعملاً هو قول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: “الناس صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”، واعتماد هذا المبدأ والتقيد به على الرغم من المفرزات العديدة للحياة المعاصرة التي انتشر فيها الجشع والطمع والاعتداء على حقوق الآخرين وكراماتهم تحت مسميات عدة وبمظاهر مختلفة، فكان لزاماً على الثورة أن تحدد بوضوح هوية العدو الذي لا يجوز مهادنته، ولا الانصياع له مهما بلغت قوته، فالنزعات العدوانية قد تظهر لدى هذا الصنف أو ذاك من الناس، وهذا يحتم تحديد العدو الذي يستهدف وجودنا وحقوقنا وكرامتنا، ويعتمد القوة والعدوان الممنهج بدلاً من الاحتكام إلى القانون الدولي وحق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار النموذج الذي يناسبها في حياتها الخاصة بها ضمن دولتها، وهذا يفسر حرص الثورة على مد يد العون والمساعدة للمحتاجين بغض النظر عن أية انتماءات ضيقة تشوه المسحة الإنسانية والأخلاقية التي تميزت بها الثورة، على امتداد اثنين وأربعين عاماً، وهذا يقودنا إلى المبدأ التالي من المبادئ التي تبنتها الثورة.
2- تحديد العدو:
منذ اللحظات الأولى لانتصار الثورة الإسلامية في إيران أعلنت بوضوح عزمها على الوقوف في وجه قوى الاستكبار العالمي والتصدي لها، وتم توصيف الولايات المتحدة الأمريكية بالشيطان الأكبر والكيان الصهيوني بالغدة السرطانية التي يجب استئصالها، ولم تحدد قيادة الثورة أية جهة أخرى في خانة الأعداء، وهذا لا يلغي وجود خصوم ومنافسين ومتعاطفين مع الجهتين اللتين تم تحديدها عدواً رئيساً، وم من حق إيران اتخاذ جميع التدابير لمنع العدو من تحقيق أهدافه الشريرة، وإذا كان تحديد العدو بدقة ووضوح يعد المنطلق الأول في رسم السياسات والاستراتيجيات ، فمواجهة العدو تفرض إعداد متطلباتها ولوازمها، وبما أن العدو هو قوى الاستكبار العالمي فإن تأمين ما يُمَكّن دولة الثورة من تنفيذ واجبها المقدس في الدفاع عن الوجود والسيادة أمر على غاية من الصعوبة، فضلاً عن مواجهة التحديات النوعية التي لم تستطع أن تثني الثورة عن متابعة طريقها، وتطوير قدراتها، وتحقيق أهدافها المحددة بالاعتماد على الله سبحانه وتعالى وعلى القدرات الذاتية بشكل خلاق أذهل أعداء الثورة، وجعلهم يعيدون حساباتهم أكثر من مرة قبل التفكير بارتكاب أية حماقة، لأن التكلفة قد تكون فوق طاقة التحمل، وهذا الأمر بالذات هو ما مهد لخلق البيئة المناسبة لحدوث انزياحات جيوبوليتيكية بدأت تتبلور مع مطلع الألفية الثالثة، وتوجه روسيا الاتحادية لاستعادة بعض فاعليتها الدولية، وتنامي قدرات الصين، ولاسيما في المجال الاقتصادي.
3- لا غربية ولا شرقية:
أدرك قائد الثورة سماحة الإمام الخميني قدس سره أن العالم محكوم بثنائية قطبية قلقة وغير مستقرة، وأن المستقبل القريب مفتوح على احتمالات وسيناريوهات جميعها كارثية، فضلاً عن أن أسس ومبادئ كلا المعسكرين لا تأخذ بالحسبان الخصوصية الإسلامية، وبالتالي فإن الاصطفاف مع أي منهما يعني التناقض الجزئي أو الكلي مع جوهر العقيدة الإسلامية أولاً، كما يعني الدوران في فلكه ثانياً، ولو أن قائد الاتحاد السوفييتي آنذاك ميخائيل غورباتشوف أخذ ببعض ما جاء في الرسالة التي أرسلها له سماحة قائد الثورة لتغير وجه القرن الماضي بشكل جوهري، وقد تحقق تنبؤ سماحة الإمام الخميني قدس سره بزوال الاتحاد السوفييتي، وهذا ما أشارت إليه الرسالة بوضوح وجرأة حيث جاء فيها: «حضرة السيد غورباتشوف… لقد اتضح للجميع أن البحث عن الشيوعية يجب أن يتوجه من الآن فصاعداً إلى متاحف التاريخ السياسي العالمي! أما لماذا؟ فلأن الماركسية لا تلبي شيئا من احتياجات الإنسان الحقيقية، لماذا؟ لأنها مذهب مادي، ومحال إنقاذ البشرية بالمادية من الأزمة التي خلقها فقدان الإيمان بالمعنويات، وهو الذي يمثل العلة الأساسية لما تعانيه المجتمعات الإنسانية شرقية كانت أم غربية.» ومن هنا نفهم لماذا تبنت الثورة مبدأ لا شرقية ولا غربية، وشقت طريقها الخاص بالثورة، الذي يحمل بصمتها الذاتية ومعالم هويتها الإسلامية ذات الطابع الإنساني، مع التشديد على قيام الدولة بواجباتها الأساسية في الاهتمام بحاجيات الشعب الإيراني وتوفير متطلبات الحياة الكريمة، وضمان الأمن والأمان وصيانة الحدود والسيادة والمصالح القومية العليا للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
4- نصرة المستضعفين:
في ظل غياب متعمد وشبه كلي للقيم الإنسانية والقانون الدولي يصبح من المحتم أن يكون هناك ظالم ومظلوم، ومستضعف ومتجبر وفقاً لعوامل القوة التي يمتلكها كل طرف أو دولة، ومنذ انطلاقة الثورة حتى وقتنا الراهن وهي تثبت بالأفعال المرتسمة على أرض الواقع أنها مع مساعدة المغلوبين على أمرهم، وأنها حريصة على شد عضد المستضعفين، ونصرة المظلومين أينما كانوا، وحيثما توفرت إمكانية الدعم والمساعدة بأي وجه من الوجوه، وإذا كان أعداء الثورة يحاولون تشويه صورتها فليأتوا بمثال واحد عن التدخل الإيراني إلا لنصرة المستضعفين، ومحاولة رفع الظلم عمن لحق بهم الحيف والضيم، وأكلت حقوقهم بالباطل، ولعل إغلاق سفارة الكيان الصهيوني وتخصيص مبناها ليكون سفارة لمنظمة التحرير الفلسطينية خير شاهد على ذلك، ومتابعة بسيطة لما قدمته إيران الثورة للقضية الفلسطينية كفيل بتوضيح هذا المبدأ، وفي ضوء ذلك كان القرار بتخصيص يوم باسم “يوم القدس” لنصرة القضية الفلسطينية، وتشكيل فيلق خاص من قوات الحرس الثوري باسم “لواء لقدس” الذي ارتقى قائده الحاج قاسم سليماني شهيداً مخلداً مطلع العام المنصرم، وقد عرف العالم بعد استشهاده غفر الله له بعض المعلومات الإضافية عن حجم ما قدمته إيران الثورة للقضية الفلسطينية رغم كل الارتجاجات التي أصابت المنطقة والعالم بعد تفرد واشنطن بالأحادية القطبية، والإمساك بغالبية مفاصل صنع القرار الدولي.
5- الندية في العلاقات الدولية:
انطلقت الثورة الإسلامية في فهمها للعلاقات الدولية والتعامل مع الدول الأخرى من ميثاق المنظمة الدولية نفسها “هيئة الأمم المتحدة”، ومن القانون الدولي الذي يؤكد على أن كل دولة تمثل وحدة سياسية مستقلة لها حدودها ودستورها وقوانينها وحقوقها وسيادتها التي لا يجوز المساس بها تحت أي عنوان، والندية في التعامل تلغي تلقائياً الاحتكام إلى القوة أو التهديد بها، وتفسح أفاقاً واسعة أمام إرادة الشعوب للانطلاق وشق طرقها نحو التقدم والازدهار، كما أن الندية في التعامل على المستوى الدولي يحرم قوى الغطرسة من ميزة الترويع المسبق المفروض والمسلم به، وهذان العنوانان على قدر كبير من الأهمية، ويحتاج كل منهما إلى بحث علمي مستقل لتسليط الضوء على مضامينه، وفهم حقيقة المدخلات والمخرجات، ونوعية التفاعل الذي يتم في بوتقة الانصهار المسؤولة عن دورة القرار المتخذ في هذه الدولة أو تلك، وكيف يمكن العمل بالإمكانيات المتاحة على زيادة فعالية المخرجات واستخدامها في شتى ميادين الحياة
6- تحويل الحرب إلى جامعة:
لم يعد خافياً على باحث مهتم بفهم حقيقة ما شهدته المنطقة من أحداث وتطورات وتداعيات أن الحرب الصدَّامية التي استمرت ثمانية أعوام كانت تستهدف إجهاض الثورة قبل أن يشتد ساعدها، فضلاً عن تدمير الإمكانيات العراقية والإيرانية بأن معاً، وبشكل ممنهج، فالفكر العلمي الصحيح المعتمد على حقائق الدين الإسلامي وروافعه السليمة يهدد المصالح الحيوية العليا لقوى الاستكبار والهيمنة، والانخراط في مواجهة مباشرة مع إيران الثورة ستخلف خسائر وتكاليف هم بغنى عنها، طالما أن لديهم وكلاء ينفذون الدور المرسوم لهم من دون نقاش أو اعتراض، وكان من المتوقع أن تخرج إيران من الحرب الظالمة التي فرضها صدام حسين منهكة ومثخنة بالجراح الكفيلة بإعاقة أي تطور يمكن أن يبنى عليه، لكن النتائج جاءت صادمة وغير متوقعة بفضل التوجيه الاستراتيجي الذي أصدره سماحة القائد الخميني قدس سره بضرورة العمل منذ الأيام الأولى للحرب بكل السبل والوسائل المتاحة والممكنة لتحويل الحرب إلى جامعة، واستخلاص الدروس المستفادة والعبر في كل جولة، وليس الانتظار إلى أن تضع الحرب أوزارها، وهذا بحد ذاته يشكل إضافة معرفية نوعية نظرياً وعملياً قدمتها الثورة الإسلامية للفكر الاستراتيجي العالمي، فتحولت أراضي الجمهورية الإسلامية إلى خلايا عمل دؤوب لا ينقطع، وتمكنت الثورة بوفاء أنصارها من الصمود، وتحويل العديد من التحديات إلى فرص، وعلى الرغم من حجم الخسائر الكبيرة التي خلفتها الحرب إلا أن طهران خرجت أقوى، وأكثر اعتماداً على القدرات الذاتية، وفي الوقت نفسه أكثر قدرة على تخليق عوامل قوة ذاتية إضافية وتفعيلها بزخم الثورة والإيمان بمبادئها، والثقة بحكمة قائد الثورة قدس سره.
7- كسر إرادة الهيمنة والسيطرة المعادية:
إذا كانت الغاية الأكبر لأية حرب شاملة تتلخص بكسر إرادة العدو، فيمكن القول بكثير من الاطمئنان والثقة أن الثورة الإسلامية الإيرانية قد انتصرت في بلوغ هذا الهدف، وهي عبر جبهات المواجهة المفتوحة عسكرياً واقتصادياً وعلمياً وإعلامياً ودبلوماسياً قد تمكنت وببراعة ومهارة فائقتين أن تكسر إرادة الهيمنة وبسط النفوذ والسيطرة، والبعبع الأمريكي أو الصهيوني تبين أنه أضعف بكثير من أن يفوز بمصادرة القرار وكسر إرادة التحدي وإثبات الذات، واكتفي هنا بالاستشهاد بحادثتين فقط:
أ ـ عندما قام البحارة الأمريكيون بخرق المياه الإقليمية الإيرانية لأمتار كان الرد الإيراني أكثر من مرة حيث تم مصادرة السفينة المتجاوزة مع بحارتها وطاقمها، وتم عرضهم وهم جاثمون على ركبهم وأيديهم مرفوعة ومتشابكة خلف رؤوسهم، ولم تفلح كل أساليب الوعد والوعيد والترغيب والترهيب في منع إيران الثورة من عرض تلك اللوحة المعبرة على العالم أجمع الذي وقف مذهولاً، والجميع يعلم أن القواعد العسكرية الأمريكية منتشرة في منطقة الخليج (الفارسي)، وفيها من الجنود والسلاح ووسائل الدمار والإبادة ما هو كفيل بمسح دول عن خارطة العالم، ومع ذلك وقفت واشنطن صاغرة تستجدي إطلاق سراح رهائنها وتعد بعدم التكرار.
ب ـ في الوقت الذي توقع فيه العالم أن العدائية الأمريكية بلغت الذروة في عهد إدارة ترامب، وفي الوقت الذي اتضح فيه للجميع أن واشنطن مصممة على استعادة هيبتها بالعدوان والقتل والإبادة، وأنها تضرب عرض الحائط بكل ما له علاقة بالقانون الدولي وإرادة المجتمع الإنساني في الكون برمته، فأقدمت وبصفاقة ووقاحة غير مسبوقة على اغتيال القائد الحاج قاسم سليماني، والقائد أبي مهدي المهندس وبعض من كان معهما، وظهر ترامب متبجحاً بجريمته ومعلنا عنها، وفي هذا الوقت بالذات الذي لم يكن أحد يتوقع أن تتجرأ إيران على الرد، إلا أن حقائق الواقع تقول: الثورة الإسلامية الإيرانية تنفذ ما تقول، ولا تسكت على ضيم، وتواجه التحدي بتحدٍ أكبر، وهكذا جاء الرد صاعقاً وسريعاً، وتم استهداف القاعدة العسكرية الأمريكية في “عين الأسد” في العراق برشقات مباركة من الصواريخ التي أصابت أهدافها، واعترف الشيطان الأمريكي صاغراً بأنه تلقى الضربة، وكانت تتمة الرد الذي جاء واضحاً وشفافاً ودقيقاً على لسان قائد الثورة سماحة الإمام علي الخامنئي دام ظله الشريف، بأن استهداف القاعدة العسكرية الأمريكية ما هو إلا تباشير الرد الذي لا يمكن أن يكون أقل من خروج قوات الاحتلال الأمريكية من كامل المنطقة، وتطور الأحداث وتداعياتها تؤكد أن هذا ما سيحدث في المستقبل القريب والعاجل، وليس في المدى المتوسط أو البعيد، ومن كل ما تقدم يظهر بوضوح إن إرادة الهيمنة والعدوان وبسط السيطرة والنفوذ تتآكل بفضل عوامل موضوعية وأخرى ذاتية، وتحتل الثورة الإسلامية المباركة موقع الصدارة في هذه العوامل التي برهنت لأصحاب الرؤوس الحامية أن التبريد ممكن بإشعال نار تفوق حرارتها ما في رؤوسهم من تيهٍ وتكبر وغطرسة لم تعد قابلة للترجمة بعد كسر إرادتهم.
8- منطلقات خاصة بالداخل الإيراني:
انتصار الثورة الإسلامية في إيران لم يكن حدثاً عابراً، وإسقاط نظام الشاه لم يأت بالقوة العسكرية واقتحام الثكنات، بل بضغط شعبي كاسح استطاعت عبقرية سماحة الإمام القائد قدس سره أن تستنهض هممه، وأن تحاكي قناعته، وتعبر عن تطلعاته المشروعة، وهذا جعل لزاماً على الثورة الانطلاق دائماً من مصلحة الشعب بالدرجة الأولى، والحرص على تقديره حق قدره، وقيادته بصدق وإخلاص في دروب العزة والكرامة والتطور بما ينسجم ومتطلبات الحياة المعاصرة، مع الحفاظ على الثوابت والهوية الإسلامية الصحيحة وتنقيتها من أية رواسب أو شوائب قد تعترض مسيرتها سواء بعامل الزمن أو بشكل متعمد، ولهذا ركزت الثورة على رأي الشعب والمقبولية العقلانية، وهذا يتطلب وصول من يعبر عن نبض الشعب إلى مفاصل صنع القرار، فكان الاهتمام بالانتخابات والتقيد الصارم بنتائجها، لأن اعتماد الانتخابات، واحترام نتائجها يؤكد تمسك الشعب بنظام الثورة ككل، وليس بهذه الحكومة أو تلك، مع التركيز على مواجهة التقصير والفساد بكل أوجهه ومختلف مسمياته وأشكاله، ووضع الشعب الإيراني بصورة ما يتم اتخاذه من قرارات بهذا الشأن، والإعلان عن ذلك رسمياً، وهذا بدوره أفرز نتيجة على غاية من الأهمية،وهي التمسك بهوية الإسلام المحمدي الصحيح، والاعتماد على البصيرة والصبر الاستراتيجي في تحصين الشخصية الإيرانية ومضاعفة عوامل قوتها بالاعتماد على الذات، وكل فكرة من هذه الأفكار تستحق دراسة بحثية مستقلة، ولذا سأكتفي بهذا التكثيف الخاص بالداخل الإيراني.
9- أفكار وعناوين عامة:
من الصعوبة الكبيرة أن تتضمن دراسة مكثفة جميع الأفكار المهمة والمتعلقة بالثورة ومبادئها، فتلك المبادئ والتمسك بها أفرز نتائج ملموسة تركت آثارها على الدولة والمجتمع، وعلى العلاقات الإيرانية مع بقية الدول، ويمكن باختصار الإشارة إلى بعض العناوين والمحطات الأساسية في تاريخ الثورة، وهي عديدة، ومنها:
• اليقين المطلق بالله تعالى، وصحة نهج الرسول الأكرم والأئمة الأطهار، والثقة الكبيرة بالذات وقدرة قيادة الثورة على الإبحار بالسفينة إلى شاطئ الأمن والسلامة والتقدم والازدهار.
• الخروج كلياً من الفلك الأمريكي الغربي، وتبني القضية الفلسطينية لتحتل سلم الصدارة في الاهتمامات الإيرانية، والعمل على الدفاع عنها في المحافل الدولية، وتقديم مختلف أشكال الدعم لتمكين الشعب الفلسطيني من التمسك بأرضه وحقوقه، وإصراره على الدفاع عنها بثقة ويقين بأنه ليس وحيداً بل هناك من يتبنى قضيته بتكليف شرعي وإنساني وأخلاقي.
• التركيز على العلم واعتماد المنهج العلمي في مختلف جوانب الحياة، مع تشجيع البحث العلمي ودعمه إلى درجة أحرزت فيها إيران الثورة مرتبة متقدمة على المستوى العالمي، متجاوزة بذلك كيان الاحتلال الصهيوني، وهذا ما أقض مضاجع حكام تل أبيب وداعميهم والدائرين في فلكهم الآسن من منطلق التبعية والخضوع كما هو الحال في مشيخات وممالك الخليج (الفارسي) المتأسرل والمتسابق للتطبيع مع العدو، واعتماد إيران الثورة عدواً، بعد أن كانت إيران أيام الشاه شرطي الخليج (الفارسي) الذي يستدعي حكامه وسلاطين للجلد أو تلقي التعليمات والأوامر.
• ولادة محور جديد اسمه محور المقاومة الممتد والمترابط بعضه ببعض، وقد أثمرت ولادة هذه المحور انتصارات نوعية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وما أنجزه حزب الله في التحرير عام 2000، وإرغام جيش الاحتلال على الانسحاب مذموماً مدحوراً تحت جنح الظلام، والانتصار التاريخي في حرب 2006 وتحرير إرادة المقاومة الواثقة بنفسها وبربها وبنهجها، والوقوف مع الجمهورية العربية السورية بكل صدق وإخلاص في مواجهة مد الإرهاب التكفيري الذي أرادوا له أن يعم المنطقة لتدمير البنى السياسية القائمة وإعادة تشكيلها بما يخدم المصالح الصهيو ـ أمريكية، ولا أحد في العالم يستطيع أن ينكر الدور الجوهري والفاعل الذي لعبه دعم إيران الثورة للدولة السورية، والمساهمة مع الجيش العربي السوري في القضاء على جحافل وجيوش من الإرهاب المسلح المنظم والمدرب والمدعوم عسكرياً ولوجستياً واقتصادياً وإعلامياً ودبلوماسياً، ولهذا يستميت العدو الصهيوني والدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية والزاحفون تحت أقدام هؤلاء وأولئك، ويعملون بكل ما يمكن لتشويه حقيقة الدور الإيراني الرائد في سورية، لكن هيهات لهم ، فمن يظن أو يتوهم أنه بعربدة هنا، أو عدوان هناك بذريعة الوجود العسكري الإيراني المباشر في سورية وإبعاد الخطر عن تل أبيب يستطيع أن يغير اللوحة المتشكلة والهوية المتكاملة عليه أن يعيد حساباته، وأن يستفيق من أحلامه، فمحور المقاومة كل متكامل، والجبهات مشتركة، والعدو واحد وكذلك الأهداف، وإذا كانت الفترة السابقة مكرسة للقضاء على داعش وبقية التنظيمات الإرهابية المسلحة التي تم تجميعها من شتى أنحاء الكون والزج بها على الجغرافيا السورية لتفتيت الدولة، فمن الطبيعي أن يكون هناك خطوات عملية قادمة تستهدف الوجود الاحتلالي بكل مسمياته، ولن تستطيع قوة في الدنيا مصادرة إرادة أبناء محور المقاومة، وإن غداً لناظره قريب.
• التطور الصناعي النوعي وعلى مختلف الصعد، فإيران الثورة عضو في النادي النووي العالمي شاءت واشنطن أم أبت، وإيران الثورة انضمت إلى النادي الفضائي، وأرسلت أقمارها الصناعية إلى الفضاء الخارجي، وإيران الثورة تعيش اليوم منجزات ثورة صناعية حقيقية سواء في المجال الصحي والطبي وتصنيع لقاح خاص بكوفيد 19″كورونا”، وكذلك تصنيع أجهزة التنفس التي سارعت بريطانيا للحصول عليها، الأمر ذاته يتكرر في التصنيع الحربي الخفيف والمتوسط والثقيل، فإيران تصنع كل ما تحتاجه بدءاً بالمنظار وليس انتهاء بأحدث الطائرات المسيرة والحربية والحوامات والسفن والمدرعات والمدفعية والصواريخ التي أدخلت الرعب إلى قلب أعداء الله والقيم الإنسانية، وهذا بحد ذاته كفيل بإرغام الرؤوس الحامية والمنفوخة كبراً على اعتماد التنفيس الذاتي لأن التورم السرطاني الذي يتم تصديره على أنه عامل قوة وردع تبين أنه منتهي الصلاحية عند قيادة الثورة الإيرانية وأنصارها، وقوى الهيمنة والاستكبار العالمي يدركون ذلك ويعرفونه حق المعرقة.
10- الموضوع النووي ومواجهة الحرب النفسية المعادية:
كما فشلت واشنطن والصهيونية العالمي في كبح جماح الثورة في إيران ومنعها، من شق طريقها الخاص الذي غدا منهج تفكير وأنموذج حياة لديه أنصاره ومعجبوه ومن يتبنونه، كذلك أخفق المحور المعادي في إبعاد إيران عن التقنية العلمية النووية، وأرغمت الإدارة الأمريكية في عهد أوباما على التوقيع مع خمسة زائد واحد على الاتفاق النووي الإيراني، ويبدو أن بعض مفاصل صنع القرار الأمريكي في إدارة الرئيس الأمريكي الأسوأ دونالد ترامب ظنوا أنهم بالانسحاب من الاتفاق يستطيعون منع إيران الثورة من الاستمرار بتحقيق الإنجازات التي استطاعت بلوغها رغم الحصار الجائر والعقوبات غير القانونية ورغم تجييش الكون ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وها هي إدارة بايدن لا تتوقف عن إرسال إشارات الاستجداء لإيجاد مخرج يحفظ لها بعض ماء الوجه، بعد أن وجدت ذاتها مرغمة على انتهاج سياسة لا تنحصر بإلغاء عهد ترامب والتنكر لكل ما أفرزته إدارته، وفي الوقت ذاته لا تشير إلا أنها استنتاخ لإدارة أوباما التي فشلت في منع إيران الثورة من امتلاك تقنية المعلومات التي أدخلتها النادي النووي، فوقعت على الاتفاق لأن الخيارات الأخرى كارثية، كما أن الخيارات الممكنة اليوم أمام إدارة جو بايدن ضيقة، وتضيق أكثر مع مرور الوقت، فهي بين خيارين أحلاهما مر: فإما أن تعود إلى الاتفاق الذي مزقته الإدارة السابقة، وإما أن تقامر بإشعال المنطقة، وهي عاجزة عن التحكم بالنتائج النهائية للاحتراق، وجميع أساليب كي الوعي المجتمعي والحرب النفسية فشلت في تحقيق أي من أهدافها، فعندما علا الصوت بإمكانية توجيه ضربة مدمرة لإيران في الأيام الأخيرة من عهد ترامب المأزوم والمهزوم كان الرد بمناورات استراتيجية متواصلة في البر والبحر والجو، وإظهار بعض قدرات إيران الدفاعية الكفيلة بمسح الكيان الصهيوني عن الخارطة، وهذا ما ألزم الصقور الأكثر دموية في تل أبيب وواشنطن على خفض سقف تهديداتهم، وبعبارة أخرى يمكن القول: إن المناورات الاستراتيجية الشاملة التي نفذتها إيران الثورة حرمت دعاة الحرب من التفكير بالحرب الوقائية والاستباقية بآن معاً، وأفشلت روافع الحرب النفسية المعادية فشلاً مدوياً، وإذا كان هناك من يطالب طهران بالعودة إلى الاتفاق أولاً فالجواب وصل واضحا وصريحا ومباشراً، وعلى لسان سمحة القائد الخامنئي دام ظله الشريف بأن العودة تتطلب رفعاً مسبقا لجميع العقوبات، وعودة واشنطن صاغرة وتكفلها بالتعويض عن الخسائر التي سبب بها، وجاء الرد العملياتي على لسان بقية القادة والمسؤولين الإيرانيين، ولعل أكثرها وضوحاً ودلالة ما جاء على لسان قائد الحرس الثوري بأنهم “في لحظة ما اكتشفوا أنهم لم يعودوا بحاجة للاتفاق، وأن عدم الحاجة إلى رفع العقوبات أولى من رفع العقوبات” ومثل هذه اللغة المستندة إلى المنطقة والاقتدار كفيلة بإحداث استدارة حتمية ستترك آثارها المتتالية على الاصطفافات الجيوبوليتيكية القائمة منذ نهاية الحرب الباردة بين معسكرين، زال أحدهما، والآخر في طريقه إلى الانحسار الحتمي قريباً.
خاتمة:
مهما قيل أو كتب بالثورة الإسلامية الإيرانية التي قادها سماحة روح الله الخميني قدس سره الشريف لا يمكن أن يفي الثورة بعض حقها، وهذا غيض قليل من فيض كبير مما أنجزته الثورة وتنجزه، ومن حق الثورة علينا نحن المهتمين بالأبحاث والدراسات الاستراتيجية ـ كما أنه من واجبنا ـ أن نسارع لتأريخ هذه الإنجازات التي تجاوزت الجغرافيا الإيرانية، وتركت آثارها الإيجابية على العلاقات الدولية في العالم أجمع، ومعطيات الواقع القائم وقرائنه الدالة تؤكد حقيقة ناصعة مفادها أن الثورة الإسلامية في إيران ولدت لتبقى وتستمر بالانتشار وإثبات الذات، وهي اليوم أكثر قوة وحضورا وفاعلية إقليمياً ودولياً.