ايهاب زكي – كاتب وباحث فلسطيني
يبدو أنّ إدارة بايدن بدأت بتجميع أوراقها باكراً، وقبل التسلم الرسمي لمفاتيح البيت الأبيض، مما سمّي بالمصالحة الخليجية مروراً ببيان”الترويكا” الأوروبية وصولاً إلى الحذق الفرنسي، وتصريحات وزير خارجية فرنسا لودريان، كما لو أنه أشبه بموظف في حملة بايدن الانتخابية لأن يلحظوه بمنصبٍ في فريق العمل الرئاسي. والحقيقة أنّ أوروبا ارتضت أن تكون محمية أمريكية، ولم تعد سوى صدىً للزفير الأمريكي، بل حتى أصبحت تتسيدها الرغبات “الإسرائيلية”، لذلك كان ردّ وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف قاسياً على التصريحات الفرنسية. فإيران تدرك وحسب التجربة، أنّه لا توجد سياسات أوروبية في المنطقة خارج الأطر الأمريكية، وأنّ أوروبا باتحادها واقتصادها وسياساتها مجرد ورقة أمريكية تفاوضية، كما هو حال مجلس التعاون الخليجي، ومن يقرأ تاريخ الحملات الصليبية، سيدهشه تطابق السياسة الأوروبية الحالية مع سياسة الحملات الصليبية، والاختلاف الوحيد أنّ أوروبا استبدلت البابا بالعم سام، واستبدلت الصليب بالديمقراطية والشركات.
والحقيقة كان في نيتي أن أكتب مقالاً يقارب بين السياسة الأوروبية المعاصرة ونظيرتها زمن الحملات الصليبية، ولكن عدتُ مستدركاً بسؤالٍ عن الأهمية، فقررت بما أنّه لا أهمية للسياسة الأوروبية على الإطلاق، خصوصاً أنّه لا وجود لها، أن أعيد ترتيب أفكاري للكتابة عن السياسة الأمريكية فيما بعد مرحلة ترامب، حينها تستطيع بلا عناءٍ معرفة ما سيخلص إليه الساسة الأوروبيون، لتقديمه على شكل سياسة أوروبية. وسؤالٌ أخير على سبيل الانتهاء من السياسة الأوروبية، من الأكثر أهمية للانطلاق نحو تحليلٍ سياسيٍ رصين، جولة القاذفة الأمريكية”بي52” الأخيرة، أم أوروبا بسياساتها وساستها وتصريحاتهم وقدراتهم؟ والإجابة تبدو بديهية، ويبدو أنّ الوزير الراحل وليد المعلم، حين قال “شطبنا أوروبا عن الخارطة”، كان يعرف أنّها بلا وزن، ولشدة انعدام وزنها وضعت وزير الخارجية السوري فيصل المقداد على لوائح العقوبات الأوروبية.
اعتبر الوزير ظريف أنّه “إذا كانت طلعات القاذفات الأمريكية لتهديد إيران، فعلى الولايات المتحدة أن توفر ملياراتها”، والحقيقة أنّ هذه الطلعات مدفوعة الثمن مسبقاً عبر الخزائن النفطية، وهذه الطلعات وإن كانت في شكل تهديد لإيران، فهي أيضاً تأتي في إطار استعراض القوة مقابل المناورات الإيرانية، كما أنّها تأتي كإيذانٍ بأفول عهد ترامب، وفشل محاولات الاستدراج في الفترة الأخيرة من عهده، حيث مارست إيران الكثير من الصبر المتحفز، واستطاعت تجنب الفخ مع مكتسبات استراتيجية، فهي تدرك أنّ مرحلة بايدن ليست مرحلة قطع مع العداء الأمريكي لإيران، ولكن إيران التي صمدت في وجه سياسة الضغط القصوى، التي مارسها ترامب، وكان يطمح من خلالها أن تأتي إيران إلى طاولة التفاوض صاغرة، ترى أنّها تفاوض من موقع قوة، كما تفاوض في ظل توازن رعب صنعته مع الولايات المتحدة، وهذا سيحدّ من خيارات بايدن لا إيران، لذلك وكما كتبت في وقتٍ سابق فإنّ التعنت الأمريكي في رفع العقوبات والعودة بلا شروط للاتفاق النووي، سيجعل من المفاوضات القادمة مفاوضات على شكل الانسحاب الأمريكي من المنطقة، وهذا ما قد يجعل من سوريا أحد خيارات إدارة بايدن للاستنزاف والضغط.
في مقال لجيمس جيفري المبعوث السابق إلى سوريا، كتب أنّ الضربات “الإسرائيلية” في سوريا هي جزء من استراتيجية أمريكية، وأنّها حدَّت من الخيارات العسكرية للنظام السوري، وأضاف أن استنزاف واشنطن لطهران في سوريا يشبه النموذج الأفغاني، حيث نجحت الولايات المتحدة باستنزاف الاتحاد السوفييتي، لذلك فإنّ هذه الاستراتيجية قد تكون أحد خيارات بايدن، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ بايدن أكثر ألفةً مع الكرد وأقل إعجاباً بأردوغان، وهذا ما سيعيد طرح مسألة التقسيم بما يداعب أوهام السفهاء، كما وتدخل عملية إعادة تنشيط داعش في هذا الإطار أيضاً، ولكن إذا افترضنا أنّ عهد بايدن سيشهد استقراراً أمريكياً داخلياً، بما يجعله طليق اليد خارجياً، فإنّ محور المقاومة يملك الوسائل الكافية لجعل يده مغلولة، والغارات “الإسرائيلية” التي تشكل جزءًا من الاستراتيجية الأمريكية هي استراتيجية فاشلة النتائج، أمّا إذا تمّ تطويرها طمعاً في نتائج ذات فعالية ميدانية وسياسية، فإنّ هذا خيار صعب وغير مأمون العواقب، حيث يستبطن تلقائياً تغييراً في الاستراتيجية الدفاعية لدمشق ومحورها، بما يتبع ذلك من عواقب آخر من يريدها هو بايدن، وهذا ما ستثبته المئة يوم الأولى من ولاية بايدن أو تنفيه، وهي ستكون الحاكمة على التصورات التي ستُبنى عليها صيرورة الأحداث في السنوات المقبلة، إن كانت باتجاه تفاوضٍ على الانسحاب الأمريكي أو تهدئة على شكل هدنة متوسطة الأجل.
خاص العهد