التحولات المشرقية والفرص التي تنتظر مَن يبادر

غالب قنديل | رئيس مركز الشرق الجديد

تؤكد مؤشرات التطور الإقليمي توافر فرصة تاريخية للإنقاذ وللتنمية في لبنان، بينما تُفتح أبواب بلدان الإقليم على مراحل جديدة واعدة، على صعيد التنمية والتطور الاقتصادي الاجتماعي، وتعزيز المناعات وإمكانات الردع في وجه الحلف الاستعماري الصهيوني الرجعي.
أولا: تؤشّر التطورات المتلاحقة، اقتصاديا وسياسيا وميدانيا، الى أن الوثبة الكبرى، التي حققتها إيران بإسقاط جانب مهم من العقوبات، التي كبّلتها طيلة العقود الماضية، وانعتاق اقتصادها الوطني العملاق من قيود خطيرة، فرضها الحلف الاستعماري. في حين تنهض سورية، وتراكم المزيد من عناصر انتصارها، ويبلور القائد الأسد خطة شاملة، رسم عناوينها، لإزالة آثار العدوان، بعد عشر سنوات من الخراب والدمار، وبعد عشر سنوات من الحصار والعقوبات.
وتتأهب سورية، التي تجدّد حرصها على لبنان، لحقبة واعدة من الصعود والتطور والبناء. وفي كلّ ذلك، يبدو الواقع المتحوّل في الشرق، لمصلحة محور المقاومة، متزامنا مع انكفاء الحلف الاستعماري والحكومات العميلة، في حالة من العجز والسلبية. بينما تنهض ساحات المقاومة، ولا سيما فلسطين، لتضع الكيان الصهيوني والدوائر الاستعمارية والإمبريالية في المنطقة والحكومات العميلة في حالة انكفاء وعجز وقصور غير مسبوقة في التاريخ المعاصر. ويستكمل الحدث اليمني، الأصيل بمساره الصاعد، هذا المشهد ليرسّخ أصالته وجذريته وإشعاعه في البيئة الإقليمية.
ثانيا: إن الوضع الجديد ومعادلاته، يبدو زاخرا بالفرص، وهو لا يمكن أن يتجسّد بنتائج تلقائية في أيّ من الساحات، التي يشملها بإشعاعه وتأثيره، ما لم تقم حركة منظمة ومنهجية، ببرنامج واضح، وبإرادة صلبة، لالتقاط الفرصة. ويشهد التاريخ المعاصر بأمثلة كثيرة عن هدر الفرص، لانعدام الوعي وغياب الإرادة. ولنا في شواهد المسار اللبناني، خلال العقود الماضية، دروس كثيرة وعبر لا تُنسى، لما تخلّفه البلادة السياسية والعقم لفكري، والعجز عن المبادرة، من تأثير خطير، يهدر الفرص، ويؤسّس لنكبات لا تُحصى، ويغرق السلوك القيادي في المياومة والترقيع والسلبية.
حتى لا نُتهم بالمبالغة والتهويل، نسأل، وبكل بساطة، وفي سؤال واحد، قبل أيّ شيء آخر، سيدرك القارئ الحصيف صحة ما نذهب اليه، فهل كان مستحيلا توقّع الانهيار قبل حصوله، ووضع خطة لاستدراكه بدلا من سكرة لحس المبرد، في حلقة الربا والاستدانة والورم المالي والاستهلاكي الخادع؟. وها هي السكرة طارت، وحلّت ساعة الحقيقة، وبات البلد في ظلال الكارثة. ولعل المفجع أكثر، أن يستمر اجترار الوصفات القديمة. بينما تغلي المنطقة بفرص وإمكانات، يجري إعماء اللبنانيين عنها عمدا، لإبقائهم غافلين، مسلوبي الإرادة، في حلقة الخضوع للهيمنة الغربية، ولاستلاب الدين والقروض، وتخريب وإهمال جميع الفرص المتاحة في الشرق القريب والبعيد، وحيث يمكن لنا أن نرصد عناصر وبشائر نهضة غير مسبوقة في تاريخ الاقتصاد اللبناني والدور الإقليمي الهائل، الذي يمكن أن يلعبه لبنان بقليل من الدراية والفطنة، وبقيادة رشيدة، تضع خطة، تحول الاستشراف والتأمّل الى إمكانات عملية مُحقّقة.
ثالثا: ليس ما نعرضه في هذا المقال، أمالا وتمنيات، بل هو استنباط واقعي لعناصر التحوّل الظاهرة، والتي يمكن لأي ذي بصيرة، أن يلاحظ دون أي جهد، أن ظرفا جديدا، يَفترض بالقيادات المسؤولة أن تتخذ المبادرات، وترسم الخطط لالتقاط فرصه. والسؤال هنا، مشروع تماما، عن أسباب تعطّل وغياب أيّ اتصال أو لقاء بين لبنان وسورية وإيران والعراق، الدول الشقيقة والشريكة في الخيارات الإقليمية الكبرى، والتي تحوز إمكانات كبيرة، ولدى قياداتها وحكوماتها كامل الاستعداد لتقديم كلّ مساعدة ممكنة، ولإقامة شراكات مجدية مع لبنان، وهي فرصة للإقلاع التام عن عادات التسوّل والاقتراض الربوي، الذي أدمنته الحكومات اللبنانية، وأغرقت به البلد، وخرّبت كل شيء. فالشراكات المتاحة مع هذه الدول الشقيقة، توفّر الكثير من الموارد وفرص النمو، ومصادر الطاقة، بأكلاف لا تُضاهى، لكن المشكلة في لبنان، هي غفلة القيادات وبلادة الجهات المسؤولة، والغارقة في ألف همّ جزئي، إلا وضع الخطط الجدية والعملية لإنقاذ البلد. وبكل أسف، نقول هنا، إن أخطر المشاكل، هي إدمان الواقع السياسي، ولا سيما السلطة السياسية، بجميع مكوناتها الرئيسية، لعادات بليدة، ولوصفات سهلة، كلّفت البلد كثيرا، وأهدرت فرصا لا تُعوّض.
إن خبرة التجربة المرّة، تؤكد لنا اليوم، ضرورة إطلاق مبادرة وطنية لبنانية، تفرض على الواقع السياسي العمل للتحرّك بسرعة، في سبيل التوصل الى اتفاقات شراكة مع سورية والعراق وإيران، وفتح الأبواب أمام سائر الدول، على قاعدة تكافؤ المصالح، وبمنطق كسر الارتهان والاستلاب المَرَضي للهيمنة الغربية، ولعقلية الانخلاع السياسي والثقافي والاقتصادي، التي حالت دون نهوض لبنان، وأوصلته الى الهوّة السحيقة، التي يستغرق فيها اليوم.

Exit mobile version