أنيس نقاش | منسّق شبكة أمان للبحوث والدراسات الإستراتيجية.
لو أخذنا بالدراسات العلمية التي تحدد تاريخية إمكانية ظهور الدولة القومية بالمعنى المتعارف عليه، أي الدولة المركزية التي تجمع بين مواطنيها بالرباط القومي والقائم اساسا على وحدة اللغة والتاريخ والآمال المشتركة ، الفيت أن هذا المفهوم حديث لم يظهر في السياسة الدولية إلا بعد انهيار امبراطوريات الهابسبورغ والبروس والعثمانية.
أما القوم بمعنى مجموع البشر الذين يتحدثون لغة واحدة وقد ينحدرون من سلالة واحدة ، فيكون هناك وحدة اللغة ووحدة الاثنية والدم كروابط تحكم العلاقة بين بني القوم الواحد.
قبل ذلك لم يكن هناك دولة قومية بالمعنى الحديث بل مجموعة إمارات أو اقطاعيات بعضها منفصل عز بعض وبعضها متضايق تحت امبراطورية واسعة تجمع تحت هيمنتها عدة ممالك واماارات وعدة شعوب واقوام.
المفكرون العرب الذين كتبوا أثناء مرحلة بدء ضعف الإمبراطورية العثمانية وهم يبحثون عن برنامجهم السياسي ومستقبلهم ، مع أو خارج هذه الامبراطورية، لم يكونوا على قدم واحدة. بعضهم كان يبحث عن لا مركزية إدارية، تعطيه بعض الحرية، وبعضهم كان يسعى لدولة متعدد القوميات، وبعضهم كان يبحث عن وحدة جغرافية، لم تكن هي المتعارف عليها اليوم، بالوطن العربي، وحريتها الخضراء من المحيط للخليج، بل كان هناك بلاد الشام وسوريا الكبرى ، كما كان هناك مشاريع تقوم على توجهات أولوية أدت إلى ظهور لبنان وكادت ان تتكرر في سوريا لتصبح أربعة دول لولا رفض القادة الوطنيين لمثل هكذا مشاريع ، شعروا ان الهدف منها تفتيتتهم وتقديمهم باضعاف فاتحدوا.
ما يهمنا هنا هو حواشي البحث عن أسس الفكر القومي ودعائنا التاريخية، ولذلك نورد الملاحظات التالية:
أولا من البدء يجب ان نكون صادقين مع انفسنا في دراسة التاريخ، واختيار رموزه خاصة، التي يراد منها دعم النظرية. اكبر مثال صارخ على مثل هكذا تحايل في تركيب دعائم الفكر القومي العربي، هو إطلاق رمزية محمد علي باشا على بدايات النهضة العربية الحديثة، وتقديمه على أنه البادىء والوضع اساس هذه النهضة.
لا أعرف من أين تأتي مثل هكذا أفكار والقناعات ، إلا إذا اعتبرنا أن تكرار ذكر الخطأ والتطوير والتزوير، يجعل منها حقائق تاريخية يمكن أن يبنى عليه.
نحن هنا لا نطرح هذا الموضوع، للمنافسة الفكرية، أو لدحض حاجة تاريخية مضت ومخالف على تقييمها، نحن هنا أنصحك منهج تفكير، ما زال يعمل ويوسف البعض الاستعانة بحججه من أجل بناء المستقبل، وهذا ما نسميه البناء على جرف هار، وليس على أساس صلبة. المستقبل هو الذي يعنينا هنا بالأساس.
محمد على هذا الباني المنشود والكتاب وليس له مع العرب لا قرابة ولا نسب ولا حتى ارتباط لغوي، لبلاده كان يتكلم التركية، وكيف لا وهو والي تركي عين بقرار من السلطان العثماني واليا على مصر.
كما أن محمد علي لم يأت إلى مصر “الالبومات شمس مصر ليصبح عربيا. لا أدري من الذي دس هذه الحملة ووضعها على لسان محمد علي كما يقال نقلا عنه، وهو كان جابيا للضرائب في مدينة كفالا في ولاية روملي، وهي حاليا مدينة يونانية، أي أنه عندما جاء أرض مصر مع الجيوش العثمانية لطرد نابليون لم يكن صبيا، والصهيونية هي بترديد مثل هكذا أهازيج.
محمد علي عندما إرسل حملوها إلى بلاد الشام كانت في مراحل منها بهدف التصدي للوهابيين، وفي مراحل اخرى محاولة ليس لتوحيد العرب في جغرافيا عربية واحدة، كما يحلم من ينظرون لهذه الأفكار. فهو في محاولتيه وصل إلى الاستعانة وحاول إسقاط السلطان. ومن يقوم بذلك لا يكون مشروعه “عربيا “، لتوحيد بعض بلاد العرب، بل هو كان متمردا على من عينه واليا على إحدى ولاياته، وعندما اشتد عوده طمع بموقع السلطان.
ولكم أن تتخيلوا لو أن جيوشه قدر لها ان تسقط السلطان والاستانة المدينة الأكثر تطورا وعمرانا في ذلك الزمان، هل كان سيبقى على عاصمته في القاهرة، لكي يبث منها اناشيد العرب، عبر إذاعة صوت العرب، أم أنه كان سيدخل الاستانة ويجلس مكان السلطان وفي قصوره؟
محمد علي لم يفعل إلا مافعلةالسلاجقة، الذين كانوا يحمون حدود دولة الخلافة العباسية وعندما إشتد عودهم، ووهن حكم الخليفة العربي العباسي، انشأوا ممالكهم ثم امبراطوريتهم. وهذه أحوال العديد من القادة الذين يخدمون أسيادهم وعندما يشتد عودهم ينقلبوا عليهم. وهكذا كان حال المماليك، وهي ظاهرة لا تنحصر في بلادنا وفي تاريخنا.
محمد علي عندما أراد أن يحكم مصر لوحده أبعد عمر مكرم الزعيم المصري، العربي الحقيقي، ثم قضى على المماليك واستفرد بالحكم. وعندما أراد أن ينشيء جيشا إستعان بضابط فرنسي مرتزق كان قد قاتل في جيوش نابليون ، وعرف مصر عن كثب وعاد إليها يعرض خدماته على والي مصر.
والدفعة الأولى من الضباط الذين تخرجوا من الكلية الحربية التي أنشأت لهذا الغرض، كانوا ثلاثمائة ضابط من الارناؤوط، أي من الالبان، كما كان كافة ضباط جيشه الذين يثق بهم.
محمد علي كان له الفضل في تحديث مصر صناعيا وزراعيا وحتى عسكريا وارسل بعثات إلى فرنسا للدراسة، ليس لانه كان رائد القومية العربية، بل لأنه كان يريد أن ينجح حيث فشل السلطان سليم في تحديث السلطنة ، فاستعان بالاوروبيين على هذه المهمة.
ما أهمية مثل هذا الطرح الان؟
إذا كانت الأسس الفكرية تقوم على مثل هكذا تحوير للحقائق، فلن تكن قوية ومستحكمة، وإذا كان الاستعانة بالغرب لتطوير وتقوية القدرات والنفوذ، للانقلاب على “رب العمل”، فهذا يعني أن نفتح الأبواب لمثل هكذا مدرسة ، كيف لا وقد ظن الشريف حسين الوالي المعين من السلطان العثماني، أنه بمساعدة الغرب وبريطانيا بالخصوص، يستطيع أن ينطلق بثورته”العربية الكبرى” تحت إشراف لورانس، اخو العرب، لكي يبني مجد العرب.
إذا كانت هذه هي الاسس، فلا نلومن من هم يعملون اليوم بدعم من الغرب لكي يبنوا دولنا الحديثة، وذلك تحت مسميات معارضة سياسية وحتى عسكرية أيضا. فكلها مدرسة واحدة، وعلى الأقل هؤلاء عرب سوريين أو عراقيين أو لبنانيين وليسوا البانا.
كوال فترة الحكم الناصري لم يبجل محمد علي كما هو اليوم. يكفي أن الضباط الأحرار اطاحوا بآخر أبنائه وهو الملك فاروق. أليست هذه ملاحظة مهمة.؟..