الدكتور نواف ابراهيم | باحث سوري
غلبت الحكمة والروية الروسيتان الجنون الأميركي والتعنت الإسرائيلي على عدة جبهات، وأولاها جبهة درعا الكبرى، بمعناها الاستراتيجي والجيواستراتيجي رغم حجمها الجغرافي.
درعا في المنطقة كما كابول في آسيا الوسطى، كانت محمل آمال كبيرة لإحداث خرق أميركي إسرائيلي بعد فشل مشروع انتزاع شمال شرق سوريا لاقتطاع جزء من الدولة السورية بأي طريقة لمصلحة الكيان الإسرائيلي في الجنوب، كبد الدولة، على أن تليها قولاً واحداً السويداء، ومن ثم العودة الى الشمال الشرقي لترتيب عقد الوصل وعملية الاقتطاع والبتر المفاجئ على المدى المنظور. وكانت الكارثة ستقع، لكن الدور الروسي وإصرار الدولة السورية على إعادة السيطرة على هذا العضو الحيوي من جسدها وتحرك الوطنيين الأشراف في درعا والسويداء من أبناء الشعب، ومعهم كل من كشفت الغمامة عن أعينهم لما يُعَدّ له، حالت دون السقوط إلى ما لا رجعة فيه.
المعركة الثانية هي الانسحاب الأميركي من أفغانستان ومحاولة خلق قنبلة فراغية في آسيا الوسطى ترتعد لها كل دول المنطقة، الكبيرة والصغيرة، من خلال زرع قنبلة موقوتة غلفت بالسلوفان، واسمها “طالبان”، ليصل الاهتزاز إلى منطقة الشرق الأوسط عبر إيران إلى العراق وسوريا التي بات يتحتّم على الأميركي، شاء أو أبى، أن يكمل انسحابه منها ومن العراق في أقرب وقت، ولكن كيف ومتى وما الذي سيتركه خلفه لكي يضمن بقاء مصالحه أو عودة له في أي وقت يلزم فيه الأمر.
هنا بيت القصيد لمن يريدون ويستعجلون الخروج الأميركي من سوريا، كما حدث في أفغانستان، وهذا السيناريو الأخطر على سوريا والعراق والمنطقة إن وقع، لأنه سيكون انتقاماً أميركياً بلبوس الهزيمة كما رسمته إدارة بايدن لتضليل الرأي العام العالمي. هذا أخطر ما يمكن أن يحدث في المرحلة المقبلة، ويجب أن لا يحدث، وأن يُمنع حدوثه بهذا الشكل، بأي طريقة، حتى لو اضطر المحور إلى المهادنة والمسايرة أو تقديم بعض التنازل المؤقت الذي لا يُضر باستراتيجية الثوابت، لأسباب كثيرة ومعقدة، يمكننا أن نأتي على عناوين بعضها فقط حالياً، عدا عن المُخفى، وهو أعظم.
من هذه العناوين البالغة الخطورة، أنه في حال انسحب الأميركي بالطريقة نفسها التي انسحب فيها من أفغانستان، فسوف يترك كل القواعد والعربات والأجهزة والمعدات ومخازن السلاح المتطور في أيدي “قسد” وفي أيدي المجموعات المسلحة الأخرى، وهذا يعني أن على الجيش السوري أن يدخل معركة طاحنة لا يعرف منتهاها ولا نتائجها الكارثية، في حال لم تذعن قوات “قسد” للصوت الوطني السوري، وقررت أن تنتحر بالمعنى الحرفي للكلمة، ما يعني أن التركيّ المتربّص بالأرض السورية سوف يأتي من خلف ظهر “قسد” ليضرب الاثنين عشوائياً، ويتوسع على حساب المعارك القائمة في احتلاله للأراضي السورية، وهذا يكون أكبر هدية يقدّمها إليه الأميركي، ولو أنه على خلاف ظاهري معه، مُحرجاً الروسيّ في الدرجة الأولى، وهنا يطول الشرح، والتفسير سيأتي وقته في ما بعد.
وما هو أبلغ خطورة هو اتفاق قسد مع الآلاف من الإرهابيين على تركهم أو المحاربة معهم ضد الدولة السورية، أو أن يهربوا من سجن “مخيم الهول” ويلتقطوا السلاح بالجملة. فما هي الصورة التي يمكن أن نتخيّلها لسوريا، والمنطقة كلها في فلتان هؤلاء؟ ومن سيدفع الثمن الأكثر هنا؟ ونأتي بعد ذلك إلى إدلب التي سوف ينتهز الإرهابيون فيها الفرصة للتحرك في كل الجهات، وتتحول المنطقة إلى أرض جنتها جحيم ونارها جهنم، ليمتد الأمر بطريقة انسيابية إلى جميع الخلايا النائمة والفلول في المنطقة الوسطى والبادية وصولاً إلى منطقة الجنوب التي تغطيها قاعدة التنف الأميركية، بكل ما يلزم من سبل الحياة لها والموت لأبناء المنطقة.
هذه هي نظرة عين الحقيقة، وليست سيناريو منسوجاً من الخيال، والمنطق والعقل لا يمكن أن يريا غير ذلك. وهنا يدخل الإسرائيلي، ومن بعده كل المجتمع الدولي الذي عجز على مدار عشر سنوات عن النيل من محور المقاومة، ولا يعود هناك أي فائدة من كل التقارب الرباعي المصري السوري اللبناني الأردني ومعه العراقي والإيراني، ولن يجدي نفعاً، وتذهب المنطقة في أتون حرب لانهاية لها إلا بعد مئة عام، سيطال حريقها كل منطقة شمال أفريقيا والمغرب العربي، ولن تكون منطقة الخليج استثناءً، وهذا ماهو مخطط له، خطة النزع الأخير أو الخطة “ب” مكرّر، والتي لم نسمع عنها سوى اسمها وبعض التأويلات، وهي الأرض المحروقة، وحرق الجميع، أعداءً وحلفاء. حينها سوف تجلس الدول الكبرى كما جلس زعماؤها في يالطا بعد الحرب العالمية الثانية، وهنا نفهم لماذا كل هذه الاستماتة على تطويع سوريا بالتحديد، وعبرها روسيا.
وفي حال تم إفشال هذا السيناريو الكارثي، فسيكون هناك سيناريو آخر أقل حدة، هو الذهاب نحو لفت النظر إلى مكان آخر، وبين آخرين، ريثما تسنح الفرصة للعودة إلى الأساس، لكونه كان في الأصل مخططاً، لكن لم يتمكنوا من إيجاد المسوّغ، والمقصد هنا إيران وجيرانها، لأن لبنان بات خارج الخطة، ويتضح هذا جلياً من التحركات البينية الأخيرة لدول المنطقة، وخاصة بين لبنان وسوريا ومصر والأردن والذي سينتقل تراتبياً وتدريجياً إلى العراق ومنه إيران، بحكم ضرورة التكامل الجيوسياسي والجغرافي والاقتصادي.
وبالتالي، حكماً، السياسي لهذه الدول. فهل ستقبل الولايات المتحدة هذا التمحور والتعاضد وتبقى متفرجة، بالرغم من أن كل هذا يحدث بصمت أميركي، إن لم يكن برضًى شبه معلن، إذ العين على غير لبنان باتت فرضاً، وبالتالي وفق هذا المعنى فإن قمة بغداد لم تكن سوى إبرة ظليلية لاستشعار متغيرات الأوضاع في المنطقة، وتعويم طرف على حساب آخر، وفق حجم الفائدة ومبدأ الربح والخسارة للأميركي، لا للآخرين، ومن بينهم حلفاؤه. في كل الاحتمالات، هذه القمة تبدو أنها كانت استعداداً لعمليات دقيقة لا يمكن أن تخلو من منغّصات وحاجة إلى عمليات إنعاش وصعق بالكهرباء، إن لم يكن استئصال أعضاء لحساب أخرى، بالمعنى الطبي المجازي، ليتم إسقاطها على أرض الواقع الجيوسياسي المستجد.
وعلى ما يبدو، فإن هناك من يسعون لافتعال دبكة في الخليج، والعلم عند الله، وفق بوادر ومعطيات غير قابلة للتأكيد المطلق، ولا للتشكيك المطلق، في الوقت نفسه من يقول إن الإسرائيلي يُعدّ لحرب تقليدية، فهذا غير دقيق. هو يستعد لها، لكنه لا يريدها، كما نرى خاصة في الوقت الحالي وقبل أسابيع، لعله أرادها أو أرادها جزءاً محدود الزمن والجغرافيا، لكن لم تأت حسابات حقله على حسابات البيدر، وهذا ما شرحه له الأميركي خلال زيارة رئيس وزراء الكيان مؤخراً لواشنطن ولقائه بايدن الذي طرح على ما يبدو وجهة نظر أقل خسارة وأكثر تجاوزاً لأي انتكاسة يمكن أن تحدث.
وفق المنظور، وبحسب التدقيق في المتغيرات والتقاطعات، لا يوجد حالياً، رغم الصورة القائمة، أي مخطط لإقحام الكيان الإسرائيلي في مواجهة مع إيران، وقد يكتفي ببعض الاعتداءات على غزة، وقد تلحقها مناوشات على الجبهة الشمالية مع المقاومة في لبنان. على ما يبدو يريدون إحداث خلل أو اهتزاز ما في إيران. وللعلم، المستهدف ليس إيران فقط، بل حشر حلفاء لهم أيضاً في الزاوية نفسها بالجهة المعاكسة، يعني يحاولون وفق المستطاع ترتيب عملية نصب كبرى وفق ما يستطيعون، وابتزاز بعض دول الخليج، كنتيجة طبيعية لتدخلهم في القضية التي يرمون الجميع في متاهاتها المؤقتة والمرسومة بدقة متناهية الحذر، كي تعطي أكبر قدر من استغلال الوقت قبل وقوع أي كشف أو مكاشفة لملابسات سلوكيات الأميركي والإسرائيلي ومن معهما من قوى غربية، وإقليمية، سواء بالرضى أم قسراً بحكم عوامل عديدة.
نعم قد ينجح هذا المخطط المتوقع على الرغم من وجود لقاءات ومحادثات يُحكى عنها إعلامياً أنها إيجابية مع دول الخليج، وتحديداً مع المملكة العربية السعودية. هم يريدون رمي فتيل ما، وهنا يجب عدم التعامل بردود الفعل والانفعال غير المتزن مع أي “فتيشة” يرميها الكيان الإسرائيلي أو الأميركي ومن معهما، حتى لا يضيع الجهد المبذول لتهدئة المنطقة، وكي يتم تفويت الفرصة على امتداد الفتيل تحت أي مسوّغ، حق بظاهره أو باطنه، لهذه الجهة أو تلك.
الروسي عاقل وحكيم يفكر، بحسب ما نعتقد، باستراتيجية دقيقة، بالتوازي مع محاولات دخول آمن إلى لبنان، وليس لبنان فقط، ومن مصلحته على قدر عال الدخول إلى لبنان بالتحديد، في هذا التوقيت بالذات. وهذا ما قد نراه خلال هذا الشهر أو الفترة القريبة المقبلة في تحركات قد تكون شبه رسمية أو رسمية، لأسباب كثيرة، منها تمتين الوضع في لبنان وسوريا، وحشر تصاعد التمدد والتمرد الإسرائيلي الوقح، والتوضيب الاستراتيجي للمصالح مع إيران بحكم التموضع في سوريا ولبنان، سواء بنحو مباشر أم غير مباشر، عدا عن تحقيق العوائد الاقتصادية وأخذ حجر الزاوية أمام التركي وبعض الخليجي، وحتى دول أوروبا، لكن هذا أمر يراد له تجاوب لبناني رسمي وتعاون إقليمي، في مقدمته الخليجي، بناءً على نية موسكو الصادقة في تحقيق الاستقرار الاستراتيجي في المنطقة، ومنع أي تدهور جديد يخطّط له الغرب.
حتى الآن لا توجد نتائج تذكر، بحسب ما نراه، أو وفق ما نعلم من بعضه، لكن المحاولات قائمة على قدم وساق، بحسب المنظور، ولا يستطيع أحد التكهن أو التخمين بما هو الآتي وفي أي اتجاه ستذهب العاصفة وفق فتحة الفرجار التي تتوسع فجأة بقوة وتتقلص تارة بقوة أكبر، والعكس صحيح، حتى اكتمال الصورة.