الدكتور احمد عز الدين | باحث مصري في الشؤون الإستراتيجية
يعتريك شعور بالعجز عند محاولة فهم هذا المستوى من غشاوة الرؤية عند أولئك الذين يصعرون خدهم لإسرائيل حدّ أن يتقزموا إلى مجرد وكلاء إقليميين أمنيين لها، على أساس أن ذلك يمثل جسر الوصول السريع إلى قلب أمريكا ، فالواقع أن هذا الفهم قد عصفت به كثير من المتغيرات ، ولم يعد مستقرا فوق قواعده القديمة .
غير أن ذلك لا يعني أن إسرائيل لم تعد تمثل ما كان ينبغي لها أن تمثله ، أي الغرب في الشرق ، أو الشمال في الجنوب ، لا بالمعنى الجغرافي البحت ، وإنما بالمعنى الحضاري الغربي ، أو بالمعنى الإستراتيجي الشامل ، ولا يعني أيضا أن الولايات المتحدة لا تدفع بقوة وثبات ، لكي تكون إسرائيل القوة الإقليمية الكبرى في الإقليم الحاكمة له ، أو ضابط تفاعلاته الأساسية حسب تعبير إستراتيجي إسرائيلي ، لكن معناه أن هناك متغيرات في الإستراتيجية الأمريكية ليست إسرائيل ذاتها ببعيدة عنها :
أولا : رغم وحدة الإستراتيجية بينهما بخصوص الشرق الأوسط ، او بدقة أكثر رغم انخراط إسرائيل كأكبر مفردة فاعلة وثابتة ومستفيدة من الإستراتيجية الأمريكية ، فقد أصبح هناك تباين في التكتيك يصل أحيانا إلى حدود التناقض ، حيث ترى أمريكا أن جانبا من التكتيك الإسرائيلي في إطار ذات الإستراتيجية لا يخدم أحيانا هذه الإستراتيجية ، وإنما قد يمثل عبئا عليها .
إن ذلك قد يبدو واضحا في تكتيك ضرب المفاعل النووي الإيراني سابقا ، فرغم أن أمريكا اعتبرته في حينه توجها حميدا وصحيحا ، ومنحته ضوءا أخضر ، إلا أنها في المراجعة الأخيرة مع تهديد إسرائيلي جديد باستخدام القوة ضد إيران ، رأت أن نتائجه كانت سيئة لأنه منح إيران فرصة للتعجيل بتحقيق زيادة ملموسة في نسبة تخصيب اليورانيوم ، وبالتالي تقليل الحيّز الزمني لامتلاك القنبلة ، وإن كان هذا التفسير لا يمثل إلا مستوى واحدا من مستويات عدة في فهم هذا التغير ، بل إن إسرائيل تلقت تحذيرا كتابيا من أمريكا قبل أيام يقضي بغلّ يد الموساد عن القيام بأي عمليات سرية في إيران.
ولعل ذلك قد يبدو واضحا أيضا ، في التوجه نحو الحالة السودانية أخيرا من قبل الطرفين ، صحيح أن أصابع المخابرات الإسرائيلية لم تتوقف منذ سنوات عن التغلغل داخل المنظمات الأهلية عبر جنوب السودان ، بسبب ما اعترى الأحزاب السياسية من ضمور على يد النظام السابق ، إلا أنها اختارت دعم المكون العسكري بعد انفراده بالسلطة ، لكن هذا التكتيك الإسرائيلي لم يكن متجانسا مع ملمح هام في الإستراتيجية الأمريكية ، عَكَسَ نفسه عمليا في توجه بأن يجلس الخصمان المتنافسان أو أحدهما وظل الآخر على حصان واحد في مرحلة انتقالية ، باعتبار أن المطلوب هو تخفيض درجة حضور الجيوش في المعادلات السياسية للبلاد ، قبل إخراجها وهو أمر لا يتعلق بالسودان وحده ، وتحويل الشرق الأوسط إلى ولايات أمريكية لا تتمتع بغير مسحة من الحكم الذاتي ، في مناخ ليبرالي زائف .
ثانيا : إن الإستراتيجية الأمريكية باتت تقارب سياستها في المنطقة من منظور صيني بالدرجة الأولى ، ومن منظور إسرائيلي بالدرجة الثانية ، ومن منظور روسي بالدرجة الثالثة ، ومن منظور نفطي بالدرجة الرابعة .
تستطيع أن تلاحظ في وثيقة التوجه الإستراتيجي المؤقت لإستراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي أصدرتها إدارة بايدن قبل أسابيع من فشل حوار الساعات الثلاث بين الرئيسين الأمريكي والصيني ، أن الوثيقة أشارت إلى روسيا خمس مرات في إطار ضيق يتعلق باتفاقية ستارت ، ولم تشر إليها إلا مرتين عندما تعلق الأمر بتوصيفها على أنها تمثل تهديدا كقوة منافسة ، لكن الوثيقة صوبت سهامها خمس عشرة مرة إلى قلب الصين باعتبارها تمثل التهديد الأول عسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا ودبلوماسيا .
لهذا كان كينيث ماكنزي قائد القيادة المركزية الأمريكية واضحا ، عندما قال قبل شهور من الاستدارة الإستراتيجية الأمريكية من أفغانستان ( 27/4/2021) : ( إن الصين وروسيا يسعيان إلى تعزيز نفوذهما في الشرق الأوسط على حساب الولايات المتحدة ، التي ظلت لعقود تسيطر عليه ) وربما كان عليه أن يضيف أن الولايات المتحدة قد قررت إحكام سيطرتها على الشرق الأوسط ، واستئصال أي نفوذ صيني بالدرجة الأولى ، وروسي بالدرجة الثانية منه .
لعل هذا يبدو واضحا في تفسير آخر قدمه سفير السودان في أمريكيا ، لتفضيل الولايات المتحدة عودة ” حمدوك ” تحديدا ، فعودته مثلت الضمانة لإغلاق البوابة السودانية في وجه الصين وروسيا ، وقد سبق وأن تعرض لضغوط أمريكية لطرد الصينيين من السوق السوداني ، وإنهاء الخدمات التي كان يقدمها الروس ، وقد استجاب لها رغم أن الأمريكيين تركوا السوق يعاني من جفاف في السلع والخدمات .
والحقيقة أن إسرائيل نفسها لم تكن استثناءا من مواقف خشنة في مسألة العلاقة مع الصين ، حتى قبل الانتخابات الأمريكية الأخيرة بأسابيع قليلة ، فقد ذهب وزير الخارجية الأمريكي مسرعا إلى إسرائيل بهدف واحد ، هو الضغط على نتنياهو لشطب أكثر من مشروع صيني في إسرائيل ، ولم يخلو الحوار بين الطرفين من صدام ، بل إن هناك من يؤكد أن نتيجة هذا الحوار كانت أحد العناصر فيما لحق بنتنياهو بعد ذلك .
غير أن لغة هذا الحوار الخشن والآمر ، بخصوص الصين وروسيا ، توزعت على عدد من الدول العربية ، كان في مقدمتها الإمارات والسعودية والعراق ، وقد كان ذلك واضحا مثلا في تصريح للخارجية الأمريكية موجه إلى السعودية ، كان نصه : ” نحذر السعودية من التعامل مع القطاع الدفاعي الروسي ، لكي لا تخضع للعقوبات ” كما في تصريح آخر لوزير الدفاع الأمريكي ” لويد أشتون ” وقد كان نصه : ” ندعو حلفاءنا إلى الابتعاد عن أي فعل أو تحرك قد يؤدي إلى فرض عقوبات “
ودون دخول في جمع تفاصيل كثيرة مبعثرة ، فقد كان واحدا من سدنة المرحلة الخديوية في القرن التاسع عشر ، أكثر دقة دون أن يقصد في التعبير عن ذلك ، وهو وزير قطاع الأعمال ، وهو يعلن عن إنهاء التعاقد مع الصين لإنتاج سيارة كهربائية ، فقد أوجز قائلا : ( كان هناك عقد زواج ، وقد انتهى بالطلاق ) ، فالمطلوب طلاق إقليمي شامل وبائن مع الصين .
ثالثا : إن في إستراتيجية الولايات المتحدة بعد الاستدارة من أفغانستان ، ما يعطي انطباعا عميقا بأنها قررت أن تكون هذه الإستراتيجية ، مادة وفعلا وتطبيقا ، طيّعة بشكل كامل بين يديها ، فهي مصدر التفكير ، ومصدر القرار ، وهي العنصر المباشر في التنفيذ ، فقد انتهت مرحلة القيادة عن بعد ، وعلى الدول الإقليمية التي يتوجب عليها الانخراط في هذه الإستراتيجية ، أن تمارس انصياعا صامتا ، وأن تنفذ دون مناقشة ، وأن تستجيب دون تحفظ ، تحت سيف مسلط من الإكراه السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري ، وتحت تهديد مباشر بفتح ما تمتلكه من ملفات خاصة لشحن الرأي العام ، وخلق حالة من الاضطراب الداخلي ، وفرض وقائع تتيح فرض عقوبات .
إن الخطاب الأمريكي المباشر إلى الجميع ، لم يخلو من التهديد بسلاح العقوبات ، ولم يخلو من شروط تبدو جازمة في صيغ تبدو بدورها حازمة ، إضافة إلى أن عددا من الملفات الرئيسية التي كانت تتشارك فيها عدة أياد إقليمية ودولية ، سعت الولايات المتحدة إلى أن تنتزعها منفردة لنفسها ، يستوي في ذلك أوضاع السودان أو ليبيا أو اليمن أو لبنان .
وحتى في إطار التحركات الأفقية بين دول الإقليم ، فقد أصبح لازما أن تكون خاضعة للمحور الرئيسي الذي تستند إليه هذه الإستراتيجية ، ولذلك عندما تتدعي أفواه اللوبي الإماراتي في الفضاء المصري ، أن التوجه الإماراتي المستجد نحو تركيا ، وحقيبة العشرين مليار دولار ، التي رافقته إلى هناك ، كانت محل تفاهم واتفاق بين مصر والإمارات ، فإنها تعطي انطباعا كاذبا وبائسا ، بأن 85 رحلة جوية بطائرات إماراتية إلى قاعدة ( هيرارميدا ) الجوية الأثيوبية وعلى متنها معدات عسكرية وذخائر ودرونز ، إضافة إلى 17 رحلة أخرى لنقل 50 عربة مجهزة لتحميلها بالمدفعيات والرشاشات ، إلى جانب عشرات الرحلات الأخرى بطائرات مدنية مستأجرة لنقل الذخائر والمعدات ، كانت جميعها محل تفاهم واتفاق مع مصر للحفاظ على سلطة تقطع شريان الحياة عن مصر ، أي أن علينا ان نصدق أن مصر نفسها تشارك في الحرب على نفسها .
رابعا : لقد أثقل بعض العرب موازين إسرائيل ، لا في الإقليم فحسب ، ولكن في قلب مفردات الإستراتيجية الأمريكية ، فقد كبرت إسرائيل إقليميا بأيدي بعض هؤلاء العرب ، ربما أكثر مما كبرت بأيدي غيرهم ، وقد وضعوا من أموالهم وعقيدتهم وكرامتهم ودماهم ، وقودا إضافيا في دبابة إسرائيل الإقليمية ، سمح لها أن تخترق الحواجز ، وأن تطوي الحدود ، كي تصبح القوة المهيمنة في الإقليم ، لقد كانت ثلاث دول خليجية هي القاطرة الرئيسية ، التي حطمت الحواجز ، وأغرقت العالم العربي كله ، في بركة آسنة من التيبس والانكسار ، رغم أن كل ما أُعطي لإسرائيل في النهاية ، هو هبات مجانية وإن ظنوا أن لها مقابلا باقيا ، أو أنها خشبة للطفو والبقاء فوق سطح هائج ومضطرب ، فلم يكن الهدف هو مشروع السلام ، لأنه في الواقع قد سقط إستراتيجيا ، ولم يكن الهدف هو الاستقرار الإقليمي ، فيقيني أن تحت جناحه أكثر من عاصفة قادمة ، ومن زلزال .