الاستدارة الإستراتيجية الأمريكية وما بعدها .. ج2

الدكتور احمد عز الدين | باحث مصري في الشؤون الإستراتيجية

كان طبيعيا أن تعلن الولايات المتحدة عن توقيع عقد تحالف وشراكة إستراتيجيتين مع استراليا وبريطانيا ، بعد أيام من الاستدارة الإستراتيجية التي أخذت شكل هرولة في الخروج من أفغانستان ، أولا للتغطية على صورة ناطقة باضطراب القيادة وسوء التقدير وخذلان الحلفاء والفوضى ، وثانيا لتأكيد أنها ما تزال قادرة على أن تقود منفردة قوة أخرى خارج الأطلنطي ، بل وأن تعاقب المتمردين على قيادتها المنفردة في أوروبا على غرار ما ألحقته بفرنسا ، وثالثا لتأكيد ما وزعته على الآلة الإعلامية الضخمة التي تديرها حول العالم ، من أن انسحابها يستهدف تحويل أفغانستان إلى منصة لإطلاق أسهم نارية تشعل الحرائق في وسط آسيا وبحر قزوين ، وتطول الصين وروسيا وإيران الخ.. ورابعا لتقدم مادة جديدة للإيهام بأن مركز الثقل في توجهها الإستراتيجي قد قفز كالضفدع دفعة واحدة من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى وبحر الصين .
ولهذا سرعان ما أعادت هذه الآلة الإعلامية وتوابعها إنتاج نفس الإيهام بحرب تطرق الأبواب في بحر الصين ، حيث تجمع أمريكا أساطيلها وأسراب طائراتها وطائرات بريطانيا واليابان ، في أحد الجزر اليابانية ، لمواجهة غزو صيني محتمل لجزيرة تايوان ، ولم يلمح أحد من هؤلاء جميعا الصور التي استبق البنتاجون بنشرها قبلها بأيام لسفن حربية صينية ، اقتربت من المياه الإقليمية الأمريكية في ولاية آلاسكا التي كانت أرضا روسية أشترتها أمريكيا من روسيا القيصرية .
(2)
الحقيقة أنه لا إعلان هذا التحالف أو الشراكة الإستراتيجية بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا يمثل إعلان حرب حالة ، ولا صفقة الغواصات الأمريكية لأستراليا تمثل قوة كيفية جاهزة مضافة لهذا التحالف ، فالدفعة الأولى من هذه الغواصات لن يتم تسليمها قبل تسعة أعوام وبالتحديد في عام 2030 ، ولا هو يمثل قفزة لمركز الثقل في التوجه الإستراتيجي الأمريكي من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى ، فالأمر كله لا يمثل أكثر من (لعبة جيواستراتيجية ) على حد تعبير الصين ، وحتى إذا كان يمثل تهديدا فالمنشآت الاسترالية ستكون هدفا للصواريخ الصينية على حد تعبيرها أيضا.
أما أن أمريكيا ستتوجه للحرب فورا إذا ما أعلنت الصين ضم تايوان بالقوة المسلحة ، فأظن أن ذلك – أيضا – يمثل احتمالا ضعيفا ومتراجعا ، فمصادر من داخل البنتاجون هي التي سربت قبل شهور قليلة تقريرا ينطوي على تحذير من مواجهة عسكرية مع الصين ، كان من بين سطوره ( إن الولايات المتحدة ستخسر الحرب مع الصين في حالة اندلاعها في المحيط الهندي ، وإن الجيش الأمريكي يبدو غير قادر على الدفاع عن تايوان وأن جزيرة جوام تبدو في خطر حاليا ) ولذلك فإن ريتشارد هاس الرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية الأمريكية ، وصاحب عقيدة أو عقدة ( حروب الثلاثين عاما في الشرق الأوسط ) هو الذي قال قبل أيام ( إن أمريكا عملاق مثير للشفقة لا حول له ولا قوة )
(3)
يبدو أنه من المناسب البدء بالرد على محاولة تكريس قناعة بأن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان هدفه تحويل طالبان إلى منصة أسهم نارية لإشعال الحرائق في وسط آسيا .
لم يكن التأييد الأمريكي لطالبان في نهاية التسعينات يرجع كما كتب كثيرون إلى تفريغ التأثير الإيراني هناك ، أو التلويح لإيران بقوة إقليمية مندفعة ، وإنما كان سببه مشروعا إستراتيجيا يتعلق بآسيا الوسطى أو بالنموات الجديدة ، حول بحر قزوين ، فقد أبرمت أمريكا ساعتها صفقة بعشرة مليارات دولار مع أذربيجان ، مع تدعيم خط الأنابيب الشمالي الممتد من باكو إلى ميناء جيهان التركي ، ولم يكن المطلوب من طالبان تحديدا سوى استضافة وحماية خط الأنابيب الشمالي ردا على التجمع الآسيوي الذي يقوم ببناء تحالف إستراتيجي لاستغلال بحيرة البترول عبر المحور الشرقي والذي كان يضم روسيا والصين وكازاخستان وتركمانستان وقرغيزستان ، وهو محور تمكن تاليا من حل تناقضاته على حساب المحور الأول الذي كان يضم أمريكا وجورجيا وأذربيجان وتركيا ، ولذلك إذا كان الأمر أمر إيران في مسألة منصة الأسهم النارية من قبل طالبان ، فالشاهد أن طالبان أرسلت المياة إلى إيران لمعالجة الجفاف ولم ترسل النيران، فمنذ اليوم الأول لإستيلائها على أفعانستان أعادت فتح نهر هلمند ليصل إلى المحافظات الشرقية في إيران التي عانت من الجفاف ، بعد أن بنت أمريكا سدودا على مجرى النهر ، ودفعت الحكومة الأفغانية إلى قطع المياه عن إيران منذ يناير 2021 ، فضلا عن أن طالبان رأت في تراتيبية النظام الإيراني ما يشكل إغراءا لعكس صورته على نظام حكمها بأن يكون رأس النظام هو المرجعية الأساسية لما يدخل في صلب الحياة الدينية والسياسية معا ، إضافة إلى أن إيران تمد أفغانستان أصلا بأربعة آلاف طن من المحروقات سنويا ، وهو إمداد لا غنى عنه ولا بديل حالا له ، ولذلك ليس من قبيل المصادفة أن تصبح إيران عضوا كامل العضوية في قمة منظمة شنغهاي في مؤتمرها بطاجيكستان في التوقيت ذاته وأن تقدم نفسها على أنها ( يمكن أن تكون حلقة وصل لأوراسيا ، عبر ممر يربط الشمال بالجنوب ) .
(4)
لم تستطع طالبان السيطرة على أفغانستان بعد خروج الجيش السوفييتي من هناك إلا بعد مرور عام كامل ، هذه المرة سيطرت قبيل وأثناء الهرولة الأمريكية ، وفي التوقيت ذاته وقبل أن يذهب وفد من طالبان إلى الصين معلنا ( أن الصين ستكون هي المحرك الرئيسي لاقتصاد أفغانستان ) كانت الصين تفتح رؤوس جسور داخل أفغانستان تحت حماية طالبان تتمدد فوقها إلى مراكز تواجدها في كل المناطق الإستراتيجية كتائب من المهندسين والآلات والمعدات ، وقد بدا واضحا أن هناك تصورات مشتركة لدور صيني عميق في إطار خطة سابقة التجهيز لاستثمارات ومساعدات تنموية ، وهو ما يؤكد أن القنوات الصينية الخلفية في عمق أفغانستان ومع طالبان تحديدا كحليف قديم ظلت قائمة ، وأن التواجد الصيني لم ينقطع منذ عام 1966 ، وهو ما يعني أن الانكشاف الأمريكي في أفغانستان تزامن معه انكشاف صيني ، فعندما انحسرت مياه النار الأمريكية من فوق الأرض ظهرت آثار الأقدام الصينية مغروسة وعميقة ، وإذا كان بعض ما يحرك روسيا تجاه الهرولة الأمريكية من أفغانستان ، هو حس ثأري قديم ترتب على الخروج من هناك ، فقد استولى الاتحاد السوفييتي على كابل تحت سقف هجوم عسكري كاسح ، لم يطل أكثر من يوم واحد ، وواصل على امتداد عشر سنوات محاولة زراعة كيان غريب في تربة أفغانستان ، ثم اضطر إلى الرحيل منهكا ومنكسرا ، قبل أن تفرض عليه الهزيمة انكماشا جائرا طال جميع أبعاد تمدده الإمبراطوري ، غير أنه إذا لم تكن الولايات المتحدة قد استخلصت دروس الخروج السوفييتي وما تلاه ، بحكم أنها تفكر دائما خارج نطاق الزمن التاريخي ، فإن روسيا فكرت قبل ثمان سنوات في نطاق هذا الزمن ، وسعت جاهدة إلى تحسين علاقاتها مع طالبان ، وهي تحصد بعد الهرولة الأمريكية ثمار هذا السعي .
لكن ذلك لا يعني أن دول المحيط الأفغاني لا تدرك أن هناك خطرا محتملا مهما بدا بعيدا ، وهي تسعى بكل قدراتها لاحتوائه على جانب وإغلاق الممرات أمامه على الجانب الآخر .
(5)
ثمة أطماع إقليمية ترتبت على الهرولة الأمريكية ، لكنها خارج سياق إستراتيجيتها في الدائرة المحيطة بأفغانستان ، وهي تعبر غالبا عن حالة من الإجهاد تطول الجغرافيا الإستراتيجية لأصحابها ، لكن بعضها يعبر عن وهم زائف بالمكانة والقدرة ، وكأنها مجرد حجر صغير يتصور نفسه سدا على مجرى فيضان جارف ، ويبدو المثل الأعلى لذلك فيما أعلنته الإمارات عن سعيها لتشكيل حلف منها ومن إسرائيل والهند لملأ الفراغ الذي خلفه الأمريكيون في أفغانستان ، والحقيقة أن أغلب هذه الأطماع لا تملك أرجلا تمشي عليها ، بما في ذلك أطماع تركيا في تأمين مشروع ( ممر اللازورد ) الذي يربط أفغانستان بتركيا عبر تركمانستان وأذربيجان وجورجيا متجاوزا إيران وروسيا والصين لينتهي بصنبور الطاقة في ميناء جيهان الذي كان مخططا له أن يكون صنبور طاقة الإقليم كله إلى أوربا .
وإذا كانت إيران قد دفعت ميناءها النفطي الأساسي من جزيرة خِرج إلى بندر جاسيك أي من الخليج ومضيق هرمز إلى بحر عمان ، فإن الهند استهدفت الوصول إلى آسيا الوسطى عن طريق ميناء جبهار شرق إيران ، ثم عبر أفغانستان ، وقد قدمت استثمارات ضخمة في أفغانستان خلال عشرين عاما من الاحتلال الأمريكي تتجاوز عشر مليارات دولار ، رغم اتهامها لطالبان بانخراط عناصرها في الحركة المسلحة في كشمير ، لكنها قد أصبحت مضطرة إلى تحسين علاقاتها مع باكستان .
وفيما يتعلق بباكستان نفسها ، فقد تمردت على الولايات المتحدة ، ورفضت منحها قواعد عسكرية بحرية على المحيط الهندي أو برية فوق أراضيها ، في الوقت الذي عمقت فيه علاقاتها مع الصين ، وأصبح ميناء جوادر الباكستاني يمثل حلقة أساسية للوجود الإستراتيجي الصيني على المحيط الهندي وبحر العرب والممر الشمالي الغربي لطريق الحرير .
لذلك فإن الحديث عن الهدف من الانسحاب الأمريكي هو السعي إلى فصل ميناء جوادر عن باكستان بتنظيم مقاومة مسلحة ضد الجيش الباكستاني من قبل طالبان وخاراسان لفرض استقلال إقليم بلوشستان ، وضرب الممر الشمالي الغربي لطريق الحرير لا يعدو أن يكون بدوره جزءا من التعمية على ما وراء الاستدارة الإستراتيجية الأمريكية .
(6)
في المحصلة النهائية فليس في الاستدارة الإستراتيجية الأمريكية التي أخذت شكل هرولة من أفغانستان ما يتعلق بآسيا الوسطى ولا بحر قزوين ولا الصين ولا روسيا ولا إيران ، وليست هناك طبول حرب حالة ، ولا قادمة في المدى المنظور ، لا في بحر الصين ولا ي المحيط الهندي ، بل هناك سعي أمريكي حثيث ليس فقط إلى بناء حالة من التهدئة مع المنافسين الأساسيين ، على قمة النظام الدولي ، وإنما فوق ذلك إلى رسم خرائط لمواقع وممرات لا ينتج عن البقاء فيها أو المرور بها مساحات احتكاك قد تدفع دون قصد إلى صدام لم يعد قائما بالضرورة على خرائط البنتاجون ، ولم يكن ما تمدد خلال الأسبوعين الأخيرين من ساعة الحوار عبر الهاتف بين الرئيسين الأمريكي والصيني ، بعيدة عن ذلك ، شأنها شأن لقاء الساعتين بين وزيري دفاع أمريكا وروسيا ، انتهاءا باللقاء الأخير خلف حائط صلد بين وزير خارجية روسيا وأمين عام حلف الأطلنطي .
لقد كررت مرارا أن مرحلة اللعب على التناقضات الثانوية قد انتهت ، وأن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على توجيه العمليات التاريخية الكبرى ، ولم يعد أمامها سبيل سوى تركيز النيران المباشرة أو غير المباشرة على أهداف منتقاة ، تعتقد أنها ساقطة إستراتيجيا أو قابلة للسقوط ، وهذه الأهداف بالنسبة لها ليست قائمة إلا فوق خرائط الشرق الأوسط .
ثم ، ماذا في الاستدارة الإستراتيجية الأمريكية للشرق الأوسط وللنظام الإقليمي العربي ؟
للحديث بقية

 

Exit mobile version