الدكتور محمد سيد احمد | كاتب وباحث مصري
على الرغم من إجادتي لكل فنون الكتابة إلا أنني على مدار ما يقرب من ثلاثة عقود حصرت كل كتاباتي في نوعين فقط من هذه الفنون, الكتابة الأكاديمية للمتخصصين في علم الاجتماع عامة وعلم الاجتماع السياسي على وجه الخصوص, والكتابة السياسية في الشأن العام محليا وإقليميا ودوليا, وعلى الرغم من وجود محاولات للكتابة الأدبية والإنسانية إلا أن كل محاولتي في هذا الشأن لم ترى النور لأسباب متعددة, فهناك عدد من القصص القصيرة موجودة منذ زمن بعيد, وهناك محاولات روائية طويلة لم تكتمل, ولم أجد الحافز للانتهاء منها ونشرها.
ففعل الكتابة عندي كان يغلب دائما العام على الخاص, لذلك كنت دائما ما أعتبر فنون الكتابة الاكاديمية والسياسية نابعة من العقل الذي يغلب العام على الخاص, في حين أن الكتابة الأدبية والإنسانية نابعة من المشاعر والأحاسيس التي تغلب الخاص على العام, لكن في لحظة ما تتدافع بداخلك المشاعر والأحاسيس وتهزم لغة العقل وتدفعك دفعا للكتابة بعيدا عن ما هو معتاد لديك, وكنت دائما ما أتحدث لنفسي ماذا سيستفيد القارئ من هذه الكتابات التي يغلب عليها الطابع الشخصي خاصة التجارب النابعة من مشاعر وأحاسيس ومواقف شخصية, لكن في لحظة ما يجد الإنسان نفسه مدفوعا بغير إرادة للكتابة عن تجربة ذاتية.
وخلال الثلاثة شهور الماضية مررت بتجارب انسانية قاسية جعلتني أفكر في تسجيل هذه التجارب من خلال كتابتها ولعل أهم هذه التجارب هي تجربة المرض, وما استتبعها من ردود أفعال بشرية, منها ما أسعدني وأدخل السرور إلى قلبي, ومنها ما أحزنني وجعلني أعيد النظر في كل علاقاتي الإنسانية مع المحيطين والمتفاعلين معي بشكل يومي سواء واقعيا أو افتراضيا, وخلال هذا الأسبوع مررت بأقصى وأمر تجربة إنسانية, تجربة تمر أمام أعيننا كثيرا لكننا لا نتوقف أمامها خاصة وإن كنا لسنا طرفا فيها, وهي موت أخي الذي يكبرني بعامين ويوم, والذي قضيت معه كل سنين عمري, ومن هنا تبدأ الحكاية.
في شوارع وحواري حي الجمالية كانت النشأة ولظروف عائلية انجبت الأم بنتين وزوجها يؤدي الخدمة العسكرية وكانت تقيم في بيت عائلة زوجها, ثم انجبت الولد الأول وهو شقيقي أحمد وكانت نكسة يونيو 1967 قد وقعت وبقى الأب مجندا ومحاربا في صفوف الجيش المصري, ومع حرب الاستنزاف جاء الولد الثاني, وقبل نصر أكتوبر 1973 وضعت الأم مولدتها الأخيرة, وخرج الأب من الجيش في ظروف صعبة للغاية, فتكفلت الجدة للأم بإقامة البنت الثانية والولد الأول في بيتها, وبقى الأطفال الثلاثة مع الأب والأم في بيت صغير خاص بهما البنت الأولى والولد الثاني والبنت الثالثة, ومرت العشر سنوات الأولى من عمر الشقيقين بعيدين عن بعضهما البعض الكبير في بيت جدته والصغير في بيت الأب والأم, وكان الكبير يحضر في أجازة نهاية الأسبوع يومي الخميس والجمعة وكان شقيقه الأصغر ينتظر حضوره بفارغ الصبر ليلعبا سويا وليحتمي به من الأطفال الذين يتربصون به لكونه وحيدا طوال الأسبوع.
وأنهى الأخ الأكبر المرحلة الابتدائية وأصر الأب على حضوره للعيش مع الأسرة وترك بيت جدته, ومنذ هذه اللحظة بدأت مرحلة جديدة للشقيقين فلم يفترقا يوما سواء في البيت أو الشارع أو الدراسة أو العمل في الصيف في دكان الوالد, ومرت السنوات سريعا, وكان الأخ الأكبر متفوقا دائما سواء في اللعب أو العمل أو الدراسة, وشاءت الأقدار أن يكون هو المحفز دائما لشقيقه الأصغر ليقتفي أثره, فكان النموذج والقدوة والمثال, وعندما انتهت مرحلة الدراسة وخرج الشقيق الأكبر للعمل معلما قرر الشقيق الأصغر مواصلة رحلة الدراسات العليا لكي يلتحق بنفس المهنة لكن داخل أسوار الجامعة, فوجد تشجيعا ودعما دائما من شقيقه الأكبر الذي كان فخورا بكل نجاح يحققه شقيقه الأصغر رغم وعورة مشواره.
وكما كان الشقيقين دائما مع بعضهما البعض لا يفترقان تزوجا بفارق يومين, وأنجبا في وقت متقارب, ولم يكن يحلو لهما التنزه والترفيه إلا سويا بصحبة الأبناء, وعندما تعرض الشقيق الأصغر مؤخرا لأزمة صحية كبيرة, كان شقيقه الأكبر بجواره ولم يفارقه لحظة واحدة, وكان حزين عليه لدرجة جعلته يكتب كلمات قليلة لكنها ذات معني كبير وعميق عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ” اللهم إني أسألك شفاءً لا يغادر سقماً لأخي وأبني وصديقي وحبيبي محمد سيد أحمد “, لقد أختزل الشقيق الأكبر علاقته بشقيقه بهذه الكلمات البسيطة والتي اشتملت على كل شيئ.
وخلال هذا الأسبوع أضطر الشقيق الأصغر أن يدخل غرفة العمليات مجددا لإجراء جراحة عاجلة فكان الشقيق الأكبر هو المصاحب له, ولم يتركه لحظة واحدة كما هى عادتهما دائما, وبالفعل أجريت الجراحة بنجاح ولم يتركه إلا بعد الاطمئنان عليه ودخوله غرفة الرعاية المركزة بعد منتصف الليل على وعد بالحضور في الصباح الباكر ليكون في رعايته, وجاء الصباح واستقبل الشقيق الأصغر مكالمة هاتفية من شقيقه يؤكد له أنه قد انتهى من ارتداء ملابسه وسيتوجه إليه فورا, وانتظر قدومه لكن الأقدار كانت لها كلمة أخرى, حيث دق جرس هاتف الشقيق الأصغر طريح الفراش ليتلقى أصعب خبر يمكن أن يتلقاه إنسان لقد مات أخوك.
وهنا تذكرت كلمات منسوبة لأحد أهم شعراء المهجر وهو الشاعر الكبير جبران خليل جبران حيث يقول ” إن الإنسان لا يموت دفعة واحدة, وإنما يموت بطريقة الأجزاء, كلما رحل صديق مات جزء, وكلما غادرنا حبيب مات جزء, وكلما قتل حلم من أحلامنا مات جزء, فيأتي الموت الأكبر ليجد كل الأجزاء ميتة, فيحملها ويرحل “, وبما أنني قد مررت بكثير من عمليات موت الأجزاء عبر رحيل أصدقاء وأحباب, وقتل كثيرا من الأحلام, فقد جاء رحيل أخي وأبي وصديقي وحبيبي أحمد ليقتل الجزء الأكبر ولم يتبقى غير جزءً واحدا ينتظر الموت الأكبر لكي نلحق بالأحباب, اللهم بلغت اللهم فاشهد.