الإتفاق النووي: توزيع أدوار أميركي – أوروبي.

الدكتور محمد مرتضى | باحث وأكاديمي خبير بشؤون الجماعات الإسلامية

منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب (عام 2018) عن انسحاب بلاده من الاتفاق النووي المبرم مع الجمهورية الإسلامية في إيران وإعادة فرض “العقوبات” عليها، اتسم الموقف الأوروبي بالضبابية تارة، وباللاحيادية تارة أخرى، وإن لم يصل الى حد الانخراط والمشاركة في إعادة فرض العقوبات أيضًا.

فالموقف الأوروبي، وإن أصر على ضرورة الحفاظ على الاتفاق، والذي أطلق عليه اسم خطة العمل المشتركة، لكنه لم يتعدَّ الالتزام الكلامي، دون الوفاء بالالتزامات التي نصت عليها خطة العمل. ورغم أن ترامب أعلن عن الانسحاب من الاتفاق عام 2018، الا أنه، ومن الناحية العملية، لم تلتزم واشنطن بتعهداتها منذ وصول ترامب الى سدة الرئاسة عام 2016، وهذا يعني أنه رغم التزام طهران بالاتفاق، إلا أنها لم تحصل على المنافع التي ينبغي أن تحصّلها منه.

يمكن توصيف الدور الأوروبي من الاتفاق، منذ انسحاب واشنطن منه، بأنه دور مزدوج، لا تلعب فيه الترويكا الأوروبية (المانيا، فرنسا، وبريطانيا) دور صمام الأمان، بقدر ما تحاول أن تلعب فيه دور المكبِّل والمقيّد لأداء الجمهورية الإسلامية. فهو مزدوج لأنه لم يواجه الموقف الأمريكي وامتنع عن تنفيذ المطلوب منه بحسب بنود الاتفاق من جهة، فيما اتخذ موقف المعارض من الخطوات التي عمدت إليها إيران من التخفيض المتدرج لالتزاماتها تبعًا للخطوات الأمريكية والإخفاقات الأوروبية، رغم أن الموقف الإيراني جاء متوافقًا مع القانون الدولي، وروح خطة العمل المشتركة.

ويبدو أن الترويكا الأوروبية، في أدائها هذا، سمحت للعقوبات الأمريكية في أن تأخذ مداها للضغط على مواقف إيران في غير الملف النووي. وفيما لم تمارس الضغوط على واشنطن، ولا حاولت التفلت من العقوبات، كانت تمارس هوايتها الاستعلائية في التنظير على إيران حول الالتزام بالاتفاق، وإصدار البيانات الحادة “المنددة” بالخطوات الإيرانية المضادة للخطوات الأمريكية من جهة، والتقصير الأوروبي من جهة أخرى.

ورغم رحيل ترامب عن البيت الأبيض، وعودة الحزب الديمقراطي الى الحكم، وهو الحزب الذي ينتمي اليه الرئيس الأسبق باراك أوباما، موقّع خطة العمل، فإن الموقف الأوروبي راوح مكانه. ولئن كانت الترويكا الأوروبية تدعي أن مروحة خياراتها كانت محدودة، بل شبه معدومة، في عهد ترامب بسبب شخصيته الاستفزازية و”غير البنّاءة”، وأنها عوّلت على رحيله لإنقاذ الاتفاق، فإن تصريحات مسؤوليها منذ وصول “جو بايدن” الى الرئاسة الأمريكية، تدحض هذه الادعاءات.

فمنذ وصول “بايدن” الى البيت الأبيض، والموقف الأوروبي على حاله، بل يتصاعد في التماهي مع الموقف الأمريكي؛ إذ رغم أن الرئيس الأمريكي الجديد لم يتخذ أية خطوة عملية تجاه العودة الى الاتفاق مع ما يستلزم ذلك من رفع جميع العقوبات عن إيران، فإن الترويكا الأوروبية لا تتذكر ضرورة إصدار بيانات شجب وتهديد، وأن الاتفاق مهدد، إلا عندما تقوم إيران بالمزيد من تخفيض التزاماتها من اتفاق وجدت نفسها أنه المطلوب منها وحدها الالتزام به (بغض النظر عن روسيا والصين)؛ ومع ذلك لم تجد أوروبا ضرورة في أن تذكّر واشنطن بأنها لا يحق لها أن تُلقي بالمواعظ على إيران حول ضرورة الالتزام باتفاق سبقت وأن انسحبت منه، ثم فرضت عقوبات غير مسبوقة على إيران.

حتى الآن، تبدو التصريحات الأمريكية غير مشجعة، ولا تدل على إمكانية عودة واشنطن الى الاتفاق، وهي تعلن أنها ستأخذ وقتها في دراسة خياراتها، فيما الأنظار تتجه الى الواحد والعشرين من الشهر الجاري؛ حيث الموعد الذي حددته طهران لإعلان تجميد العمل بالبروتوكول الإضافي المتعلق بنشاط الوكالة الدولية للطاقة الذرية في ايران، وهي خطوة، وإن كانت منسجمة مع روح الاتفاق النووي، بوصفها خطوة منطقية في مواجهة التفلت الأمريكي – الأوروبي من التزاماتهم، فمن المرجح أن تسعى واشنطن، ومعها أوروبا، الى تصوير الخطوة الإيرانية على أنها أشبه بالانسحاب من الاتفاق، وبالتالي “موت” خطة العمل المشترك، رغم اعلان ايران أن هذه الخطوة يمكن التراجع عنها فور عودة واشنطن الى الاتفاق وإلغاء كافة العقوبات.

فمن غير المستبعد أن تكون واشنطن تراهن على الوقت، وعلى تشويه الموقف الإيراني، لتسويق فكرة “موت الإتفاق”، من أجل طرح فكرة “ضرورة التفاوض على اتفاق جديد”، وهي فكرة، يبدو أن الترويكا الأوروبية لا تعارضها في أقل التقادير، إن لم نقل إنها توافق عليها، وإن كانت القيادة الإيرانية لن توافق عليها بأي شكل من الأشكال؛ ليس فقط لأن أطرافها (واشنطن وأوروبا) غير جديرين بالثقة، بل أيضًا لأن أية مفاوضات في ظل العقوبات ستكون بمثابة التفاوض “تحت النار”، وهو تفاوض لا يقبل به الا المهزوم أو الضعيف، وليس هذا هو حال الجمهورية الإسلامية في ايران.

وعلى أي حال، وسواء “مات” الاتفاق أم لم يمت، فإن ثمة عائقًا جديدًا قادم الى طاولة الاتفاق ويرتبط بالمدد الزمنية التي تنص عليها خطة العمل المشترك؛ إذ بحسب الاتفاق، ثمة بنود ترتبط بالنشاط النووي الإيراني حدد بعضها بعشر سنوات، وبعضها الآخر بخمس عشرة سنة، انقضى منها خمس سنوات، وهي فترات زمنية تسعى واشنطن ومعها أوروبا الى التفاوض حولها لزيادتها بحجة انقضاء خمس سنوات من الاتفاق كان فيها الاتفاق معطلاً، ما سيعني الدخول مجددًا في الجدال حول تحديد الطرف المعطل.

ومهما يكن من أمر، يبدو أن الطريق نحو العودة الى الاتفاق النووي وعر جدًا، وكان يمكن تعبيده لو أن الطرف الأوروبي يُقدم على خطوات جريئة تجاه إنقاذه، إن كان جديًا بالفعل، في رغبته بالحفاظ عليه؛ لكنه، وبخلاف تصريحاته، لا يمارس سوى لعبة توزيع الأدوار بينه وبين واشنطن، ففيما يعلن، اعلاميًا، تمسكه بالاتفاق ومعارضته لسلوكيات واشنطن، يقوم بالتماهي معها عمليًا. فمن الواضح أن الغرب يمارس لعبة عض الأصابع، ومن يصرح أولًا، فإن المبادر الى اتخاذ خطوة الى الوراء سيكون هو الطرف الأضعف الذي سيظهر أنه مستعد للتنازل، لكن التجارب السابقة دلت على أن هذا الطرف لن يكون إيران حتمًا.

العهد

Exit mobile version