اللواء الدكتور بهجت سليمان .
( الحلقة الثالثة والأخيرة ” 3 من 3 ” )
21▪︎ تعود هذه الظّاهرة اليوم إلى الثّقافة الاجتماعيّة – السّياسيّة بوصفها عمليات بربريّة متطوّرة و متقدّمة تديرها الدّول في إطار الحماس الثّقافيّ الاجتماعيّ و الرّفد الفكريّ و العلميّ للقوى البربريّة الغازية ، بحيث أنّ المجتمعات نفسها قد دخلت لعبة دولها في العنف و البربريّة و الاستئثار الذّاتيّ ، و لكنْ بوصفها وسيلة شعبيّة لتوليد رأي عام و مساندات مباشرة اجتماعيّة و مجتمعيّة للدّول الغازية ، أيضاً ، فإذا بنا ، من جديد ، أمام مفهوم للغزو البربريّ المعاصر و إن كان بصيغة “متطوّرة” و أدوات معاصرة ، عسكريّة و اقتصاديّة و سياسيّة و “مدنيّة” ..
و هو ما أدّى إلى تقويض مفهوم المجتمع المعاصر في إطار الدّول المتفوّقة التي تمارس الإرهاب الشّامل على الدّول الضّعيفة ، كما في الجغرافيا العالميّة التي تضمّ أطر الدّولة العالميّة كَكُلّ .
22▪ و أمّا بالنّسبة إلى الدّول الضّعيفة و المنكوبة ، فقد كان دورها في إذلال مجتمعاتها ، أقوى و أشرس ممّا هو عليه الأمر في الدّول الكبرى ، و ذلك في عمليّة من عمليّات التحاق الدّول الخاضعة بتبعيّة مباشرة للدّول الكبرى ، و بالتّالي تقسيم المنافع النّاتجة عن خراب و تخريب الدّول الصّغيرة ، ما بين الطّرفين ، و لو أنّ الدّول الهزيلة متمثّلة بسماسرة و عملاء و مرتبطين بالدّول المركزيّة ، كانت تكتفي بالفتات القليل قياساً بما تحصده دول البرابرة المعاصرين .
يطرح اضمحلال المجتمع أو المجتمعات مسألة جديدة أمام الحساسيّة ( الجماليّة ) العالميّة المعاصرة ، في شكل إشكاليّة في “الهويّة” الإنسانيّة نفسها ، بعد أن كان مفهوم “الهويّة” التّاريخيّ مطروحاً على مستوى البشريّة على صعيد الوطنيّة و الأمّة و القوميّة و الثّقافات المتمايزة .
23▪︎ و عندما تغيبُ أو تتغيّب الهويّة فإنّ إصابة بليغة تطرأ على قيمة إنسانيّة جوهريّة في الوجود البشريّ التّاريخيّ لتصفعه في أكثر من وجوديّته ، و أعني في انغلاقه في علاقته الدّلاليّة مع المغزى و مع المصير . و عند ذلك يجب ألّا نتفاجأ ، بعد ، جرّاء التّشوّه البنيويّ للإنسان المعاصر ، هذا التّشوّه الذي يبدو اليومَ صارماً و لا رجعة عنه ، و ذلك في أعمق قاعدة المشروع الإنسانيّ الذي عرفناه يوماً في الدّلالات الواعية و غير الواعية للدّافع الوجوديّ الشّامل ، الذي ينهل من حوافزه و آماله في إغراءات الجدوى التي ترافق الطّريق إلى قيمته الفطريّة منها و الصّنعيّة ، بحيث يغدو ما كان في الأمس اندفاعاً إلى هدف ، شيئاً من مخلّفات الأسف الذي ضرب في أسبابه الوهم و السّخرية و الكفر بالماضي ، بحيث يشمل ذلك كلّ صيغة على المستقبل الطّليق .
هذا و لا يُمكن أن نعثر هنا على أيّ بديل للهويّة الوجوديّة الأصليّة أو الثّقافيّة التي راكمها البشر حول إنسانيّتهم ، و ذلك مهما كانت الإحداثات السّياسيّة المزيّفة للهويّة ، و مهما كانت الإغراءات المعاصرة في بدائل الهويّة التي تمتح من جذور التّحريف ، الذي يعمل على إعادة توضيب النّزعات البشريّة في فضاء الإنسانيّة المزيّف الجديد .
24▪ تقدّم لنا قراءة المجتمع العالميّ المعاصر قراءة على أساس ما تقدّم ، مفردات للقراءة تقيّد فينا الخيال الشّعريّ و المنظومة الدّلاليّة النّثريّة للممارسة الإبداعيّة الإنسانيّة ، التي كانت تتقدّم في منحنى بيانيّ صاعد منذ اكتشاف الكتابة و حتّى قبل هذه الّلحظة بقليل .
و يشمل الأمر ، على هذا النّحو ، مختلف العلوم و عناصر الحساسيّة الأخرى ، بما في ذلك التّفسير و التّأويل و الصّورة و المشهديّة الفنّيّة و مجمل ضروب الإنتاج الاجتماعيّ في نتائجه الإنسانيّة ، بحيث تبدو البشريّة المعاصرة مجرّد ظلّ باهت لمنتجات العنف الاقتصاديّ ، المفرّغ من أيّ بعد من أبعاد الطّراوة الأسطوريّة و الخرافيّة و الخياليّة التي تمّت مصادرتها مصادرة رقميّة ، لا يمكن أن تسمح بأيّة ممارسة أخرى لعناصر الإنسانيّة ، التي خنقتها مشاريع الرّيعيّة المادّيّة المباشرة التي تتنافى مع إدراك الإنسان لذاته في حظيرة الوفرة الرّوحيّة ، التي قامت عليها بنيانات الحضارة الطّويلة .
لقد امتصّت البشريّة الأخيرة في صيغتها الماحية للأمل الإنسانيّ ، كلّ طاقات العزم و الإرادة التي ازدهرت في الرّحلة البشريّة الطّويلة ، و التي ما كان لها أن تنتظر هذه النّهايات المأساويّة لمسيرة الجهد الإنسانيّ البريء .
25▪ إنّ هذه العدوانيّة المباشرة الموجّهة إلى الإنسانيّة ، لم تكن لتظهر في عنفها المنظّم لولا أن دخلت المجتمعات البشريّة في خلل إنسانيّ قيميّ عام ، جعل من المجتمع النّموذجيّ المعروف في تاريخ المشروع الإنسانيّ ، نمطاً جافّاً لانتظار الإنسان لمفاجآته المتواليّة في عيشه المشرّع على المجهول .
و في غمار ذلك ، جرى زحزحة و إزاحة المنظومات المفهوميّة الكبرى للبنى التّاريخيّة التي قامت عليها التّشكيلات الاجتماعيّة التّاريخيّة للبشريّة ، فتجلّى ذلك بتغيير مواقع و مواضع التّناضدات التّقليديّة للمحدّدات التّطوّريّة ، حيث تحوّل ما كان في الأهداف ليصبح في الأسباب و العكس بالعكس .
و على هذا جرت خلخلة التّراتبيّة التّقليديّة لما يُسمّى بالبنى التّحتيّة و البنى الفوقيّة ، فأصبح ما كان في الأسباب هدفاً و نتيجة ، بينما مورس العنف المنظّم على النّتائج لتتحوّل إلى أسباب مولّدة للصّراعات الجديدة .