|
للمرّة الأولى منذ تعيينه ولياً للعهد يزور محمد بن سلمان تركيا لإجراء محادثات مع الرئيس رجب طيب إردوغان، بهدف التطبيع الكامل للعلاقات التي تضررت بشدّة بعد ما عرف بـ”الربيع العربي”، وتصاعد تضررها بعد مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي.
زيارة ابن سلمان لتركيا تأتي عقب زيارة الرئيس التركي في نيسان/أبريل الماضي للسعودية، بعد حملةٍ استمرّت أشهراً بغية إصلاح العلاقات بين قوتين إقليميتين، تضمنت إسقاط المحاكمة الخاصة بمقتل خاشقجي في إسطنبول عام 2018.
دفعت التطورات على الصعيدين الإقليمي والدولي في الفترة الأخيرة، الدولتين إلى التقارب مجدداً، ولعلّ أبرز هذه العوامل التي شجّعت على التعاون، التخلّي عن السياسات الإقليمية السابقة (مصر، سوريا، ليبيا..) التي استنزفت قدراتهما الاقتصادية والعسكرية، فضلاً عن السعي لتحقيق مصالح الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، وهنا نسأل كيف اشتدّ الخلاف؟
تركيا والسعودية من التقارب إلى الخلاف
العلاقات التركية السعودية كانت تسير على نحوٍ إيجابي إلى حدٍ ما، حتى فترة “الربيع العربي” والأزمة الخليجية، إذ أدّى تبني كلتا الدولتين مواقف متباينة تجاه “الربيع العربي” إلى تراجعٍ كبير في العلاقات.
ولكن، تراجع جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، ولا سيما في مصر عام 2013، وضعف الجماعة في الدول التي اجتاحها الربيع العربي، كان لهما دورٌ بارز في تراجع التزام تركيا دعم التيار الإسلام السياسي.
لذلك، عندما تمّت إطاحة الرئيس المصري، محمد مرسي عام 2013، رأت تركيا أنها تلقّت صفعة لمشروعها الإسلامي، حينذاك اتّهمت الولايات المتحدة الأميركية بالسماح لحلفائها بتدبير “الانقلاب الشعبي”.
وبدأ المنحى المستقر في العلاقات بالتوتر في منتصف عام 2017، عندما فرضت السعودية والإمارات والبحرين ومصر حصاراً على قطر، وفرضت عليها شروطاً لإنهاء الأزمة، من بينها إغلاق القاعدة العسكرية التركية في الدوحة، وكان التحوّل السعودي اللافت وقتئذٍ نحو تبنّي خطاب مناهض لتركيا ودورها الإقليمي، مدفوعاً بمجموعة من العوامل، على رأسها صعود نجم محمد بن سلمان.
وفي تونس، لم تكن الحال مغايرة كثيراً لحال مصر من المنظور التركي، فحزب العدالة والتنمية التركي كان يتمتّع بعلاقات وثيقة جداً بحركة “النهضة” ورئيسها راشد الغنوشي، الذي كان يشترك في السلطة من خلال الحكومة الائتلافية المنقسمة في تونس، واتهمت تركيا الرئيس التونسي قيس سعيّد بشنّ انقلابٍ على الدستور التونسي، بمساندة مصر والإمارات.
وعندما زار الرئيس التركي تونس عام 2019 سعياً للحصول على دعم سعيّد لتوجيه القوات التركية والمعدات العسكرية إلى طرابلس عبر تونس، رفض سعيّد طلبه ووقف ضدّ وجود تركيا في ليبيا. وكانت مصر والإمارات العربية قد دعمتا القوات الليبية بقيادة خليفة حفتر ضد حكومة الوفاق الوطني المقربة إلى تركيا.
وساد التوتر العلاقات بين البلدين في أعقاب مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول. ومنذ اندلاع أزمة خاشقجي عام 2018، أدى إردوغان دوراً في تفعيل هذه القضية ضد ابن سلمان من خلال كشف معلومات كانت في حوزة السلطات التركية أظهرت تحرّك الفريق السعودي الذي نفّذ العملية، فضلاً عن إطلاع الاستخبارات الأميركية عليها.
لماذا بدأ الجليد ينكسر بين الطرفين؟
عُقَد الأزمة بين تركيا والسعودية بدأت تتفكك في مطلع عام 2021 الماضي، وذلك مع انتهاء الأزمة الخليجية التي كان التحالف التركي القطري أحد أسبابها الرئيسة، ثم دخول أنقرة في مفاوضات لإنهاء القطيعة مع مصر في أيار/مايو من العام الماضي، وما أعقبها من إبرام مصالحة مع الإمارات توّجت بزيارة ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد أنقرة في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وكذلك إغلاق المحكمة في تركيا قضية خاشقجي العام الجاري. عبّدت هذه التطورات الطريق للوصول إلى هذه المرحلة بين السعودية وتركيا.
في سياقٍ متصل، تراجعت أنقرة عن سياساتها في دعم الإخوان من خلال فرضها قيوداً على النشاط الإعلامي للإخوان المسلمين على أراضيها، (فضائية “مكملين”) في أعقاب دخولها في مفاوضاتٍ مع القاهرة.
أما بالنسبة إلى مصر، فقد تسارعت في الآونة الأخيرة وتيرة التقارب التركي منها، وبدأت المحادثات بين البلدين تنطلق نحو إجراءاتٍ فعلية لتحقيق المصالحة.
وكشف موقع “انتيلجنس أون لاين” الفرنسي، في أيار/ مايو الماضي، وجود تنسيق أمني واستخباري بين البلدين للنظر في تسليم بعض قيادات جماعة الإخوان لمصر، موضحاً أنّ لدى أنقرة رغبة قوية في تسريع وتيرة التقارب مع القاهرة حتى لو وصل الأمر إلى تسليم بعض القيادات من جماعة الإخوان، وهو مطلب تصرّ عليه مصر، ولن تتراجع فيه – وفق ما يؤكد الموقع – في ظل الرغبة التركية في تصفير الخلافات بين البلدين وإعادتها إلى سابق عهدها.
وبالنسبة إلى السعودية اليوم، فإنّ الاستجابة للانفتاح التركي عليها سيدفع أنقرة إلى الابتعاد بصورة أكبر عن الإخوان المسلمين، والتطلّع إلى مزايا علاقات جديدة بالمنطقة العربية، وزيادة عزلة تيار الإسلام السياسي تالياً.
ويشير التحوّل في المقاربة التركية تجاه الإسلام السياسي إلى رغبة أنقرة في استعادة علاقاتها التقليدية بمحيطها العربي وخصوصاً السعودية بعدما وصلت إلى قناعةٍ بأنّ أضرار التمسّك بهذه المقاربة تفوق منافعها.
أما بالنسبة إلى قضية خاشقجي، فقبل بضعة أيام من زيارة إردوغان السعودية في نيسان/ أبريل الماضي، بدا أنّ أنقرة تُلبي شرطاً سعودياً رئيسياً لإصلاح العلاقات، وهو إغلاق القضاء التركي المحاكمة الغيابية التي يُجريها بحق 26 مواطناً سعودياً يُشبته في ضلوعهم في جريمة قتل خاشقجي، وتسليم الملف إلى القضاء السعودي. سُرعان ما استجاب السعوديون آنذاك لهذه الخطوة التي كانت منتظرة عبر توجيه دعوة رسمية إلى إردوغان لزيارة المملكة، وتدشين مرحلةٍ جديدة من العلاقات الثنائية.
وتأتي جولة محمد بن سلمان ابتداء من مصر مروراً بالأردن ووصولاً إلى تركيا، في وقتٍ يستعد فيه لطيّ صفحة التهميش الذي فرضها الغرب عليه، فالرئيس الأميركي جو بايدن سيزور في جولته المرتقبة في الشرق الأوسط السعودية، وهي الأولى منذ توليه الرئاسة في منتصف تموز/ يوليو، وذلك لجمع “الشركاء” الإقليميين في تحالف إقليمي يضم دولاً عربية و”إسرائيل” لمواجهة إيران بالدرجة الأولى، وكذلك لتصفير الخلافات بين السعودية وتركيا، وتركيا ومصر، وكذلك السعودية وقطر، وصولاً إلى الهدف الأهم بالنسبة إلى واشنطن وهو تطبيع العلاقات بين السعودية و”إسرائيل”.
وترى مديرة برنامج تركيا في معهد “ميدل إيست إنستيتوت” في واشنطن، غونول تول، أنّ “أحد الدوافع الرئيسة للسعودية هي إقامة جبهة تشمل تركيا في مواحهة نفوذ إيران في المنطقة”.
تجارة واستثمارات ومصالح متبادلة
بينما تأتي زيارة ابن سلمان لتركيا في الوقت الذي يواجه فيه الاقتصاد التركي ضغوطاً كبيرة بسبب تراجع الليرة وارتفاع التضخم إلى أكثر من 70%، ويقول محللون إنّ الأموال السعودية والعملة الصعبة قد تساعد إردوغان في حشد الدعم قبل انتخابات مشدّدة بحلول حزيران/يونيو 2023.
وعلى غرار الأرضية التي استندت إليها تركيا والإمارات في عملية إصلاح العلاقات بينهما، وهي التعاون في المجالات الاقتصادية والتجارية، فإنّ عملية المصالحة التركية السعودية تتبع النهج نفسه الذي تكمن أهميته في أنه سيعمل لإعادة ترميم الثقة السياسية على مستوى القادة.
وتعتزم المملكة، في الوقت الراهن، إنهاء الحظر السعودي المفروض على الصادرات التركية، وإعادة تكثيف مشترياتها من السلع التركية، بعدما تراجعت بحدّة في السنوات الماضية، فضلاً عن إعادة الزخم إلى الاستثمارات السعودية في تركيا، وهو أمر يكتسب أهمية على وجه الخصوص لدى الرئيس إردوغان الذي يسعى لدفع اقتصاد بلاده المتعثر، مع اقترابه من انتخابات رئاسية وبرلمانية حاسمة العام المقبل.
ويعتقد الكاتب في صحيفة “التايمز”، روجير بويز، أنّ زيادة الاستثمارات السعودية “ستؤدي إلى استعادة بعض الثقة الشعبية بالاقتصاد”، وأن أحد المجالات التي تحظى باهتمام خاص لدى السعوديين “هو تطوير تركيا وتسويقها الناجح لطائرات من دون طيار”.
وفي السنوات العشر الماضية، شهد حجم التبادل التجاري بين السعودية وتركيا مؤشرات عدّة، إذ ارتفع حجم التبادل التجاري بينهما عام 2012 إلى أعلى مستوياته، ليسجّل إجمالي الصادرات السعودية إلى تركيا 4.3 مليار دولار في مقابل واردات من تركيا بـ 3.5 مليار دولار.
وفي عام 2018 وصل إجمالي الصادرات السعودية إلى تركيا 3.3 مليارات دولار، في مقابل واردات من تركيا بقيمة 2.6 مليار دولار، وفي عام 2021 بلغ إجمالي الصادرات السعودية إلى تركيا 4.3 مليارات دولار في مقابل واردات من تركيا بقيمة 490 مليون دولار، وهو أقل مستوى للصادرات التركية إلى المملكة في السنوات العشر الماضية.
ويرى المحلّل السعودي علي الشهابي، وفق “فرانس برس”، أنّ “البلدين سيستفيدان من ذلك لأن إردوغان بحاجة إلى تدفق التجارة والسياحة من السعودية، فيما السعودية تفضّل أن يكون إردوغان بجانبها فيما يتعلق بمجموعة متنوعة من القضايا الإقليمية، وقد تكون منفتحة على شراء الأسلحة من تركيا أيضاً”.
وتأتي السياحة في مقدّم المطالب التركية من السعودية، ولا سيما بعد أن تراجع عدد السياح السعوديين أكثر من 35% وفق مدير شركة “أنقا انجو” في إسطنبول، إياد صياه.