يوسف محمد الشيخ | كاتب وباحث لبناني
يقول الراوي: “حصلت هذه الحادثة معي وشهودها ما زالوا أحياء وأرويها للمرة اﻷولى شهادة أُسأل عنها يوم القيامة”.
في أحد أيام صيف العام 1994 كنت في أحد محلات بيع برامج وعتاد الكمبيوتر التي لم تكن قد تعدت وقتها الخمسة في الضاحية الجنوبية، وكانت زيارتي لشراء لوحة مفاتيح لكمبيوتر العمل. وبما أنني أعرف المهندس صاحب الشركة فقد أصر علي لتناول القهوة وتداول أطراف الحديث، وحدثني عن رغبته بتوسيع مجال بيع اﻷجهزة بعد استيراده مجموعة من أجهزة الـ IBM ps1 و ps2 المحدثة والمستعملة بأسعار تتناسب مع حال أهل الضاحية، وقال لي إن هناك حركة مبيع لا بأس بها.
عند هذا الحد توقفت سيارة أمامنا ونزل منها أحد الفتيان الذي لا يتعدى عمره الـ 11 عامًا، أعرف أباه الذي أثرى حديثًا من تجارة السيارات المستعملة. يدخل هذا الفتى بخيلاء ويسأل عن كمبيوتر جديد قائلًا لصاحب الشركة: “عمو بدي كمبيوتر كذا وكذا ….” (يقصد أفضل كمبيوتر) فأجابه صاحبي: “طيب عمو في واحد” وأشار إلى أحد الكمبيوترات “ولكن سعره كذا” فقال له الفتى: ” بس هالقد؟ طيب جهز لي اياه رايح جيب المصاري”.
عند هذا الحد دخل الى المحل اثنان من الفتيان كانا السيد هادي الذي كان بحدود الثالثة عشرة من العمر وأخاه السيد جواد الذي لم يكن يتجاوز الحادية عشرة أو أقل. وبما أنني كنت أعرفهما شكلًا فقد دفعني الفضول ﻷرى ماذا سيشتريان.
سألا عن أسعار الكمبيوترات الجديدة والمستعملة واستقر رأيهما على ps1 . سألا عن السعر، فأجابهما، فسحب السيد هادي مبلغًا من المال من جيبه وأخذ من السيد جواد كيسًا كان يحمله، عرفت فورًا من نوعية القطع المعدنية والورقية التي فيه أنها أموال حصالة نقدية أو اثنتين (قجة في اللهجة اللبنانية)، فربما كانتا للسيد هادي والسيد جواد معًا أو لأحدهما.
المفاجأة أن كل ما كانا يحملانه لم يكن يكفي لشراء الجهاز المنشود، فحاولا مناقشة صاحبنا لتخفيض السعر إلا أنه ومع التخفيض أيضًا لم يكفِ المال الذي يحمله أبنا أمين عام حزب الله.
في هذا الوقت بالذات دخل الفتى ابن محدث النعمة ومعه السائق حاملًا عدة مئات من الدولارات ليدفع ثمن الجهاز الحديث ويخرج وعيون السيد هادي والسيد جواد تتابعه.
اللطيف أن السيد هادي قال للسيد جواد: غدًا عندما يأتي العيد نكمل الباقي من العيديات، ويمكن يكون رخص، والتفت إلى صاحبي وقال له شكرًا حاج، سلام عليكم.
خرجا وعيناي مسمرتان على حذاءيهما الرياضيين اللذين ينتعلانهما لأنهما حذاءا شرف أثمرت قدما كبيرهما بعد سنين نصرًا لأمة وشعب (كان قد تربى على أن ابن البيك هو بيك أيضًا)، إلا أن ثقافة وجهاد وكدح الجد واﻷب وتاليًا الابن الشهيد في جبل الرفيع قالت شيئًا آخر وهو: “لا يعنينا من الدنيا إلا كفافها فنحن حاملو ثأر جدنا الحسين عليه السلام الذي قال في آخر لحظات عمره الشريف: إلهي تركت الخلق طرًّا في هواك”.
السلام على السلالة العلوية التي اخذت بيدنا إلى فوز الدنيا والآخرة وحشرنا الله مع الشهيد السيد هادي حسن نصر الله (رض) واجداده الطاهرين وأبقانا الله على بيعة أبيه أنيس قلوب المنتظرين موعودًا (عج) تهل بشاراته يومًا بعد يوم من صبر وجهاد المنتظرين الشهداء واﻷحياء.