محمد علي فقيه | محرر في الميادين نت
من المؤكد أن مفاوضات فيينا في العام 2021 لا تشبه أبداً مفاوضات فيينا في العام 2015، التي أفضت إلى الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران. يذهب الوفد الإيراني المفاوض بقيادة مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية علي باقري كني إلى فيينا لجولة جديدة من المفاوضات، وهو من أشد المنتقدين للاتفاق النووي في العام 2015، إذ يعتقد “أن العقوبات كانت ستتهاوى من تلقاء ذاتها لو لم يبرم الاتفاق النووي”. كما يعتبر أنَّ إيران لم “تكن مطلقاً تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بحيث تخرج منه بموجب الاتفاق النووي”.
تتماهى رؤية باقري كني مع آراء العديد من الباحثين والمراقبين بأنَّ الانسحاب الأميركي من أفغانستان بعد 20 عاماً من الاحتلال، جعل المشروع الأميركي في العالم ينحسر ويفرض إعادة هيكلة وخرائط جديدة وجغرافيا جديدة. وليس المقصود بالجغرافيا سياسياً الموقع الجغرافي، بل يقصد بها الدور ومناطق النفوذ بين التراجع والتقدم من حيث التحالفات، والتغيرات في السياسات تجاه الإقليم بين دوله أو تجاه الدول الكبرى، والتبادل مع مراكز القوة في الإقليم.
وإذا ما أردنا أن نعتمد التحليل التاريخي السياسي، فإن هذه اللحظة تشبه لحظة ما بعد العام 1956 بعد الانسحاب البريطاني من المنطقة، بعد أن تراجعت كقوة عظمى، وتتويج أميركا والاتحاد السوفياتي كقوتين عظميين في المنطقة كبديل منها، وإلا ما معنى إعادة رسم خرائط جديدة وجغرافيا جديدة للمنطقة! هذا أولاً.
ثانياً، إنَّ المتغيرات الجغرافية السياسية في الإقليم لمصلحة محور المقاومة، من اليمن وسوريا إلى لبنان والعراق وفلسطين. وما يجري اليوم يشبه روح “باندونغ”، أي مؤتمر باندونغ الذي انبثق منه تأسيس دول عدم الانحياز، والذي أفرز خيرة القادة التاريخيين: نهرو وعبد الناصر وتيتو ونكروما.
لذلك، يذهب الوفد الإيراني إلى مفاوضات فيينا آخذاً بعين الاعتبار المتغيرات الدولية التي أتت لمصلحته، وعلى رأسها الانسحاب الأميركي في أفغانستان، ناهيك بتكرار إدارة بايدن الانسحاب من العراق وسوريا، فضلاً عن سحب بايدن بطاريات صواريخ باتريوت والطائرات المقاتلة من الأراضي السعودية، والتي تشكل إشارة إلى السعوديين أساساً بأنه انسحاب أميركي، وهذا ما أكّدته صحيفة “وول ستريت جورنال” بقولها: “في أعقاب خروج أميركا المفاجئ من أفغانستان، وتركيز سياستها الخارجية على الصين، وبعد الهجمات بالصواريخ والطائرات المسيرة على المنشآت النفطية السعودية في العام 2019، وهو الهجوم الذي ترك أسئلة من دون أجوبة، وأدى إلى تقليص الدور الأميركي في العراق، وجد المسؤولون في المنطقة أن التزام أميركا ورغبتها في البقاء في المنطقة تراجعا”.
وقد نقلت مجلة “فورين بوليسي” عن دينس روس وبعض الخبراء قولهم: “إنَّ المسؤولين السعوديين يهتمون أكثر بالإجراءات الأميركية”. ولهذا الفعل انعكاساته على إعادة هيكلة العلاقات والسياسات داخل المنطقة، في ظلِّ النفوذ الروسي والإيراني المتنامي، والوجود الصيني في المنطقة أيضاً. وذكرت المجلة “أن الرياض أشارت منذ مدة طويلة إلى أن السعودية قد تُنشئ قدراتها النووية إذا أصبحت إيران قريبة من حيازة السلاح النووي”.
لقد فرضت هذه التغيرات عودة الاتصالات والحوارات بين دول المنطقة، وسط مخاوف وعدم وضوح من الإدارة الأميركية والتزاماتها تجاه المنطقة، ومخاوف من انهيار المحادثات النووية مع إيران. وتنقل صحيفة “وول ستريت جورنال” عن محلّلين قولهم إنَّ الحوارات المتعددة لا تهدف بالضرورة إلى إصلاح العلاقات، ولكن فتح قنوات اتصال في حال انهارت المحادثات النووية.
الحوار الإيراني – العربي
هناك تقدّم لافت في الحوار الإيراني – العربي على الصعد كافة، فإيران تمارس سياسة ترطيب الأجواء المصاحبة للاتفاق النووي المحتمل الوصول إليه، بإجراء مباحثات رسمية مع الإمارات بعد القطيعة بين الدولتين، إذ تم إيفاد مساعد وزير الخارجية الإيراني لمقابلة نظيره في أبو ظبي، وبادلته طهران باستقبال مستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد، الذي اجتمع مع الرئيس إبراهيم رئيسي، ووجّه إليه دعوة لزيارة أبو ظبي.
وجاءت زيارة طحنون ضمن استراتيجية “تصفير المشاكل” التي تعتمدها الإمارات، وتبحث من خلالها إيران عن استثمار علاقاتها مع أبو ظبي في تخفيف الضغوط الدولية عنها، وتبديد مخاوف الخليجيين تجاه الملف النووي وسياساتها الإقليمية. وقد وصف وزير الخارجية الإيراني حسن عبد اللهيان، قبل زيارة طحنون لطهران، هذه العلاقة بقوله: “نقف على شفا فتح صفحة جديدة في علاقاتنا مع الإمارات”.
إنَّ تبادل الزيارات الدبلوماسية والأمنية بين البلدين يشكّل تحولاً في سياسة أبو ظبي، ويأتي من قناعة مفادها: أولاً، تراجع قوة أميركا ونفوذها وانسحابها التدريجي من الشرق الأوسط، لتركز على الخطرين الصيني في شرق آسيا والروسي في وسط أوروبا (أوكرانيا). ثانياً: “إسرائيل” لا تستطيع حماية الإمارات في السنوات المقبلة. ولهذا، تتراجع عملية التطبيع، ويتقدم الحوار الإيراني – العربي على الصعد كافة.
ثالثاً: تراجع قوة حركة الإخوان المسلمين في المنطقة، وفي مصر وتركيا وليبيا وتونس تحديداً، أي أنَّ الحركة لم تعد بالقوة التي كانت عليها في السابق. ومن هذه القناعة، ولدت جاءت زيارة محمد بن زايد إلى تركيا الشهر الماضي، من أجل إصلاح العلاقة مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي دعم الحركات الإسلامية التي تعاديها الإمارات وتراها خطراً أمنياً.
وتؤكّد صحيفة “هآرتس” أنَّ المصالح الاقتصادية والاستراتيجية بين أبو ظبي وطهران توضح أنّ المنظومة التي تُسمى “التحالف العربي ضد إيران” التي شكّلتها السعودية في العام 2016 لم تعد قائمة. وتقول الصحيفة عن زيارة رئيس الوزراء الاحتلال الإسرائيلي نفتالي بينيت للإمارات: “من المشكوك فيه ما إذا كان سيجد في محمد بن زايد، الذي من المتوقّع أن يزور إيران هذه السنة بنفسه، شريكاً في أصوات الحرب التي تُسمعها إسرائيل ضد إيران”.
هناك تغير في لغة العداء والتهديدات بين قطبين في المنطقة، هما السعودية وإيران، إلى لغة الحوار، بل الدخول في مؤتمرات مشتركة، مثل مؤتمر الشراكة الذي عقد في العراق في أواخر آب/أغسطس من العام الجاري، والتي حضرها عدد من الدول، وفي المقدمة السعودية وإيران ومصر وتركيا والأردن، وآخرون، من دون حضور دول الشام الأساسية: سوريا ولبنان وفلسطين.
وقد أجريت سابقاً مفاوضات بين إيران والمملكة السعودية برعاية عراقية، وبصورة سرية في البداية، بعد تجميد العلاقات بينهما منذ 6 سنوات، وانتقلت إلى العلانية الخجولة، ثم إلى العلانية، ووصلت إلى الجولة الرابعة، إلا أنها لم تصل إلى تفاهم أو نقاط التقاء. وكما يبدو، لن يحدث أي تقدم في هذا الملف حتى يتم الاتفاق النووي في فيينا. وتعمل السعودية بشكل دؤوب لإيقاف حربها على اليمن، بعدما وصلت إلى قناعة بأنَّ هذه الحرب لم تحقّق أيّاً من أهدافها.
وتتوسّط قطر بين السعودية وتركيا لعقد لقاء بين الرئيس التركي وولي عهد السعودية محمد بن سلمان. وحاول المسؤولون القطريون جمع الزعيمين في الدوحة الأسبوع الماضي، لكن من دون نجاح، عندما زارا العاصمة، وكانت تفصل بينهما أيام. ومع ذلك، إن الوساطة القطرية تبحث عن وقت مناسب ومكان مناسب لجمعهما في الأسابيع المقبلة.
اللقاء السوري الروسي بين الأسد وبوتين في أيلول/سبتمبر الماضي، والكلام الذي دار عن تحرير إدلب نهائياً، وحل الأزمة نهائياً في سوريا، وقد أعلن بايدن بنفسه أمام الأمم المتحدة أنّ الأزمة السورية والحصار في طريقهما إلى الحل النهائي، وهو الأمر الذي يصبّ في إعادة هيكلة الإقليم.
وبدأت بعض الدول العربية باستعادة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، بعدما فشلت كلّ الوسائل في إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، الذي التقاه وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد في دمشق الشهر الماضي. وقد تُوجه الدعوة إلى سوريا لحضور القمة العربية في الجزائر لأول مرة بعد تعليق عضويتها في العام 2011.
لم تتعرّض أميركا لناقلات البترول من إيران إلى لبنان عبر ميناء بانياس في سوريا والنقل براً إلى لبنان، إذ هدد حزب الله معلناً أنّ أيّ اعتداء على الناقلات القادمة من إيران إلى لبنان، وفي أيّ مكان تمرّ فيه، هو اعتداء على أرض لبنانية، ويمكن التصعيد إلى مواجهة عسكرية مع الكيان الصهيوني، الأمر الذي دفع أميركا إلى إعطاء التعليمات دعمًا للحلفاء، بتشغيل خط نقل الغاز والكهرباء، من مصر، إلى الأردن، إلى سوريا، إلى لبنان. وفي هذا كسر وإيقاف للعمل بقانون القيصر الأميركي ضد سوريا.
ويشكّل اختيار طهران للدبلوماسي المتمرس حسين عبد اللهيان ذي اللسان العربي الطلق بعناية فائقة، لقيادة دبلوماسيتها، رسالة تؤكّد فيها طهران أنَّ من أولويات سياسة حكومة رئيسي الخارجية، مخاطبة الجوار العربي في الدرجة الأولى، ثم الجوار الإقليمي لطهران. وقد أمضى عبد اللهيان جل تاريخه المهني في المنطقة الخليجية والمشرق العربي.
في كل الحالات، سواء نجحت مفاوضات فيينا أو فشلت، فإنَّ طهران منتصرة. إذا نجحت المفاوضات، فإن ذلك يشكل انتصاراً لطهران بفرض شروطها، ومنها الإفراج عن أكثر من 200 مليار دولار، وهو مبلغ كبير يعوّض طهران عما عانته من حصار أميركي مرير. وإذا فشلت المفاوضات، فإن أي ضربة أميركية ضد إيران ستحولها إلى دولة إقليمية كبرى، وإلا لماذا لا يتم ضربها، على الرغم من كثرة التصاريح الأميركية التي تهدد بضربها؟ ألم تتحوَّل القاهرة بقيادة عبد الناصر إلى قوة إقليمية عظمى بعد فشل العدوان الثلاثي عليها، وبعد تأميم قناة السويس في العام 1956؟
لقد اختصر وزير خارجية إيران في مقابلة تلفزيونية في كانون الثاني/ يناير من العام الماضي، العجز الأميركي بقوله: “لو كان الأميركيون قادرين على خوض حرب مع إيران، لفعلوا ذلك قبل سنوات. أحد أسباب لجوء الولايات المتحدة إلى حرب اقتصادية وفرض العقوبات علينا هو عدم قدرتها على خوض حرب عسكرية”. واستدرك: “صحيح، بإمكانهم! لكنهم لن يستطيعوا إنهاءها، لأن إيران ستنتقم وترد”.