محمود بري | كاتب وباحث سياسي لبناني .
في كتابه المُثير للجدل “رجل خلف الظهر”، أثار الكاتب الروسي ” فلاديمير ميدفيديف” زوابع واسعة من الانتقادات والمدائح، إذ نقل الصورة التي عايشها لتفكّك الإتحاد السوفياتي، من موقعه كجنرال في المخابرات السوفياتية “كي جي بي”، والقائد المسؤول عن الحراسة الشخصية للرئيسين ليونيد بريجنيف وميخائيل غورباتشوف لسنوات طويلة، حيث رافقهما في كل رحلاتهما داخل البلاد وخارجها ولم يفارقهما ليلا ولا نهارا على امتداد ما يقرب من ثلاثين عاما (1961-1991)، إلى أن أصدر مجلس السوفيات الأعلى الإعلان رقم (H-142) إشارة لانتهاء الوجود القانوني لدولة اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية، والاعتراف باستقلال الجمهوريات السوفياتية (السابقة)، وإنشاء رابطة الدول المستقلة لتحل محل الاتحاد السوفياتي.
تحدث ميديفيف عن كل صحوات وسكرات القادة الكبار الذين عرفهم عن كثب، وأسهب في وصف حالات الفساد التي قال إنها كانت تنخر أركان الدولة من أعلى الهرم، وسلوكيات الرؤساء الشخصية المُخجلة ونواقصهم وحالات الضياع التي عانوها وعكسوها على طريقة إدارتهم للبلاد… ولم يترك الكاتب أيّ نقيصة تفوته من دون تسليط الضوء عليها، حيث بدى كرجل يتحدث أمام مقبرة، ولا من يرد عليه لنقض ما يقوله أو تصحيحه. إلا أنه، وكما تصرّف الإعلام الغربي عموماً بانتظام غريب، لم يأتِ بالمرة على ذكر أيّ تفصيل ولو صغير، عن بعض النتائج التي حصلت بالواقع نتيجة لحالات الرشوة والسرقة وسوء التصرّف بما هو مُلك للدولة، بما في ذلك وأبرزه كيفية تصرّف بعض كبار الضباط القادة في الجيش السوفياتي بما كان تحت سلطانهم من منظومات أسلحة وأعتدة في أرياف البلد البعيدة. فقد انتبه البعض من هؤلاء الضباط فجأة إلى انقطاع تواصل القيادة معهم، جرّاء الاضطرابات القاسية التي هزّت العرش السوفياتي في سبيله إلى التداعي والسقوط، ووجد واحدهم نفسه حرّ التصرّف بما تحت سلطته من عديد وعتاد.
وبينما راح الجنود يتسرّبون من مواقعهم ومهامهم على إيقاع الأخبار التي انتشرت عن السقوط المُريع للدولة، قام البعض من كبار الضباط القادة بالتصرّف بما تحت إمرتهم من أسلحة، وراحوا يبحثون عمّن يدفع أي ثمن كان ليبيعوها منه. كذلك فإن جنوداً ومدنيين كُثراً استغلوا الفوضى العارمة، فراحوا “يغزون” المواقع العسكرية التي هجرها الجنود، فينتشلون منها الأسلحة والأعتدة للاحتفاظ بما يريدونه منها وبيع ما يمكنهم بيعه لكل من يشتري.
وليس غريباً ما أشيع في حينه (مما جرى طمسه وتناسيه فيما بعد كأنما بسحر ساحر)، من أن أسلحة وأعتدة استراتيجية (نووية أحياناً) خضعت لقانون الغاب إياه الذي خضعت له الأسلحة الأخرى، حيث قام ضباط قادة من الذين كانوا مسؤولين عن البعض من هذه الأسلحة، بالتصرّف بها والعمل على بيعها لصالحهم مقابل مبالغ تُعتبر زهيدة بالنسبة إلى أثمانها الواقعية.
وقد حصلت العديد من عمليات بيع على هذه المستويات، على أمتداد مدة غير طويلة، إذ أن القيادات العسكرية المركزية المعنية في موسكو، عاصمة ما صار يُعرف بالإتحاد الروسي، لم تلبث أن انتبهت إلى ما يجري وسارعت إلى الإمساك بالحبل الذي كان متروكاً على غاربه، فعملت على قطع دابر أعمال الفوضى وسوء التصرف بما في ذلك بيع الأسلحة والأعتدة ، وكان قد فُقد منها قدر لا بأس به.
وهذا يصل بنا إلى بيت قصيدنا، وهو ربما السبب الذي يُبرر إصرار الولايات المتحدة الأميركية (المُستغرب) على اتهام إيرن بالنوايا التسليحية النووية، على الرغم من إنكار طهران التام والمستمر، وعدم توفر أي دليل محسوس مهما كان لدى واشنطن، فضلاً عن الفتوى الصادرة عن أعلى مرجع في البلاد بتحريم تصنيع أي سلاح نووي (والفتوى في إيران مثابة أمر لا مجال لنقضه).
تقول الشائعة أن مرحلة تداعي الاتحاد السوفياتي وتسييب الأسلحة في مكامنها ومواقعها في الأرياف السوفياتية، ولا سيما منها الأسلحة النووية، كانت مثابة فُرصة ثمينة لا ينبغي أن تكون مرّت بسلام من دون أن يستغلّها لصالحه ذلك الإيراني الذي يبقى ذكياً، على الرغم من كل الاتهامات الأميركية والغربية الأخرى عموماً ضدّه. وبمعنى أبسط، تفترض هذه الشائعة التي يصدّقها الأميركي ويتصرّف مع إيران على أساسها، أن حائك السجاد الصامت الصبور واليقظ، استطاع الحصول على نصيب ما من السلاح والعتاد السوفياتيين، مما اشتراه بأبخس الأسعار عملاء لطهران في تلك الآونة، وتحت جنح الصمت، كما هو جدير بالصفقات التي يمكن أن تتم مع مهرّبين، وصار في أيدي سلطات البلد.
وعليه، فإن احتمال توفر السلاح النووي وكذلك التقنية التصنيعية النووية، لدى الإيراني، بعد عمل خبرائه المجتهدين على ما وصلهم من أسلحة السوفيات وأعتدتهم، يراه الأميركي فرضية معقولة، وعلى أساسها يبني جزءاً من سياسته مع طهران. وهذا (إلى أمور أخرى) يمكن أن يُفسّر مسارعة الرئيس الأميركي الخارج دونالد ترامب إلى إلغاء الاتفاق النووي مع إيران من طرف واحد، ومن دون تقديم أيّ مبرر على الإطلاق، كما يفسِّر التلكؤ المتردد من قبل الرئيس الجديد بايدن في رتق ما فتقه سلفه وإعادة واشنطن (الموعودة) إلى الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية.
وهذا بجملته يعني، بطريقة أو باخرى، أن إيران يمكن أن تكون بلداً نووياً بالفعل، كما يحب الأميركي أن يظن، وأن المغامرة بشنّ حرب عليها يُحتمل أن تتسبب بردود إيرانية نووية ضد مناطق تمركز القوات الأميركية في الخليج، وضد بترول الخليج أيضاً،كما ضد الكيان الإسرائيلي في فلسطين المحتلة.
وهذا الاحتمال، على كونه مجرد افتراض مبني على سوء الظن الأميركي لا أكثر، يبدو كافياً لتبقى واشنطن على ترددها في فتح صفحة جديدة مع طهران. ومهما كثرت إيحاءات بايدن الإيجابية بهذا الصدد، فالقلب الأسود، مثل الفحم، لا يُبيّضه الغسل المتكرر.