إيران..عودة إلى التفاوض.
د. علوان أمين الدين-مؤسس ومدير مركز سيتا
على الرغم من تصريحات مسؤوليها القاضية بتمسكها بالإتفاق الذي أبرم العام 2015، إلا أنه من الواضح جلياً أن الجمهورية الإسلامية في إيران تدرك تماماً أن إمكانية التفاوض على برنامجها النووي، من جديد، هو أمر مطروح وبشكل كبير.
فمن خلال ملاحظة بعض المؤشرات، سواء الداخلية أم الخارجية، نرى أن هناك ما يشير في الأفق إلى عقد جولات مفاوضات جديدة هدفها التوصل إلى تفاهم يكمّل أو يعدل أو يلغي الإتفاق القديم.
من بين الدلالات الداخلية، يمكن إستقراء العديد منها في هذا المجال؛ الأمر الأول، قيام طهران بالتصديق على رفع نسب تخصيب اليورانيوم إلى 20% حيث وافق مجلس صيانة الدستور الإيراني على مشروع قرار البرلمان لرفع التخصيب والحد من الرقابة على المنشآت النووية الإيرانية. جاء ذلك في وقت، ذكرت فيه العديد من المعلومات أن الرئيس حسن روحاني قد “أعرب عن معارضته للقانون معتبراً أنه يضر بالعمل الدبلوماسي الإيراني”. فبغض النظرعما يشاع من تعارض بين آراء المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي والرئيس روحاني، إلا أن هذا الموقف يؤشر إلى رغبة الأخير بعدم قطع “شعرة معاوية” مع الغرب.
الأمر الثاني، عزم الحكومة الإيرانية على زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي المتطورة بشكل كبير، حيث أعلن رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، علي أكبر صالحي، أن العمل جارٍ لتركيب 1000 جهاز للطرد المركزي من طراز IR2m وكذلك البدء بتصنيع أجهزة الطرد المركزي IR6، موضحاً أنه تم نصب سلسلتين منها، أي نحو 320 جهازاً، على أن يستكمل العمل بها خلال شهرين أو ثلاثة أشهر.
الأمر الثالث، يكمن في صور الأقمار الجوية التي رصدت العمل بمنشأة فوردو، حيث قال جيفري لويس، الخبير في مركز “جيمس مارتن” لدراسات منع الإنتشار – معهد “ميدلبري للدراسات الدولية”، إن “أية تغييرات في هذا الموقع ستتم مراقبتها بعناية بإعتبارها علامة على توجه البرنامج النووي الإيراني”، خصوصاً وأن بعثة إيران لدى الأمم المتحدة لم ترد على الموضوع، وكذلك فعلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
في نفس التوقيت، رفض سفير إيران لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كاظم غريب، إقتراح مدير الوكالة القائل بأن إعادة إحياء الإتفاق النووي، بعد وصول إدارة أمريكية جديدة إلى سدة الحكم، يتطلب التوصل لإتفاق جديد، معلناً أن هذا الأمر يتجاوز صلاحيات الوكالة.
الأمر الرابع، كان لافتاً موقف الرئيس الروحاني، من المبادرة الفرنسية، الرافض لدخول السعودية في أية محادثات جديدة. هنا، لن نتوسع كثيراً كوننا سنعود للموقف الأوروبي وتحديداً الفرنسي، غير أن ما نود الإشارة إليه هو رفضه لدخول الرياض وليس نقضه لفكرة إعادة التفاوض بحد ذاتها.
ولكي نختم الحديث عن المؤشرات المحلية، نقول إن الهدف من هذا السرد هو الوصول إلى مسألة مهمة تثبّت ما قلناه لجهة إمكانية العودة إلى طاولة المفاوضات، حيث أن طهران تريد زيادة أوراق القوة لديها، وهذا حقها الطبيعي خصوصاً بعد الإنسحاب الأمريكي من الإتفاق وتهديدات الإدارة السابقة و”تخاذل” بعض دول أوروبا للوفاء بإلتزاماتها، من أجل الحصول على ما تريده خصوصاً وأن الحديث يطال ترسانتها من الصواريخ البالستية ودعمها للإرهاب، بحسب إتهام واشنطن لها. كل ذلك يصب في معنى واحد وهو زيادة أوراق التفاوض للحصول على نتيجة مرضية.
أما بالنسبة إلى المؤشرات الدولية، فهنا سنقسم الحديث إلى قسمين؛ القسم الأول، يتعلق بالإتحاد الأوروبي. أما القسم الثاني، فيتعلق بالولايات المتحدة.
بالنسبة إلى القسم الأول، بشكل عام وقبل الحديث عن الإتحاد الأوروبي، يمكن القول بأن الأخير يريد ويشجع على أن يكون هناك إتفاق دائم بين طهران وواشنطن، والسبب هنا إقتصادي بإمتياز حيث ستفتح له اسواق إيران “العذراء” وسيستطيع إدخال أموال إضافية إلى خزينته في ظل الإزمات الإقتصادية التي تضرب دوله.
أما بالتفاصيل، تُظهر مجريات الأحداث أن الإتحاد الأوروبي “لم يستطع” أو “لم يُرد”، مع ترجيح الأولى على الثانية بنسب مختلفة، الوقوف بجانب إيران بالشكل الذي كانت تطلبه، حيث أن دوله قد هُددت بالعقوبات الإقتصادية ما جعلها تنسحب من العمل في طهران، كخروج الكثير من شركاتها العاملة منها، أو تمتنع عن القيام بتعاملات تجارية معها، على غرار صفقة طائرات “إيرباص” التي أوقفتها عقوبات الإدارة الأمريكية السابقة.
في هذا المجال، يمكن الإستدلال بموقف إيران، الذي جاء على لسان رئيس منظمة الطاقة الذرية علي أكبر صالحي، الذي إتهمت فيه الإتحاد بعد الوفاء بإلتزاماته الواردة في الإتفاق حيث قال صالحي “كان من المفترض أن يكون الإتحاد الأوروبي بديلاً عن الولايات المتحدة لكن لسوء الحظ فشلوا في الوفاء بوعودهم.. سمعنا المتحدث بإسم الإتحاد الأوروبي يقول إنهم ملتزمون بخطة العمل الشاملة المشتركة طالما كانت إيران ملتزمة بها.. أنا أتساءل: هل هم ملتزمون بعدم الإلتزام؟ لسوء الحظ، قام الأوروبيون بذلك حتى الآن.”
في مجال آخر، لم تفعّل دول الإتحاد الأوروبي آلية “إنستكس” من أجل مساعدة إيران على الخروج من تأثيرات العقوبات الإقتصادية، حيث إعتبرتها طهران مجرد “حبر على ورق”. فعلى الرغم من إعلان خبراء إقتصاديين كُثر جدوى هذه المنظومة في التعاملات التجارية بين الطرفين، إلا أن دول الإتحاد لم تقم بتفعيلها كما يجب وهو ما يخفي أمرين؛ إما خوفاً من واشنطن أو تقاعساً بهدف الضغط.

أضف إلى ذلك، إن مزاج بعد الدول الأوروبية يسير بإتجاه إعادة التفاوض، وهو ما يظهر جلياً من خلال المبادرة الفرنسية، التي شدد الرئيس إيمانويل ماكرون من خلالها على ضرورة تجنب ما وصفه بـ “خطأ إستبعاد دول أخرى في المنطقة عند التفاوض على اتفاق العام 2015″، مبيناً أن أية محادثات جديدة ستكون “صارمة” جداً، وأن الوقت المتبقي لمنع طهران من تطوير سلاح نووي محدود للغاية.
فحتى مع قدوم إدارة جديدة إلى البيت الأبيض، يبدو أن الإتجاه الأكثر وضوحاً لدى الأوروبيين هو الجنوح نحو عملية إعادة التفاوض من جديد على إتفاق يرضي كافة الأطراف.
أما بالنسبة إلى القسم الثاني، فعلى الرغم من تصريح الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي يقول فيه إن بلاده ستعاود الانضمام إلى الاتفاق “إذا عادت إيران للإمتثال الصارم” بشروط الإتفاق، إلا أن المتغيرات الدولية التي حدثت منذ خروج واشنطن إلى يومنا هذا ستكون كفيلة باللجوء نحو عملية تفاوض جديدة تتناسب مع الوضع القائم حالياً.
لذا، لا يظنن أحد أن الرئيس الأمريكي سيعود إلى كل الإتفاقات التي إنسحب منها سلفه، بل على العكس؛ فقد يعطيه هذا الأمر “حجة” من أجل إعادة تقييم الأمور خصوصاً وأن “التهمة” ستلحق بالرئيس السابق وهو “بريء” منها. لذا، يعتبر الإتفاق النووي الإيراني من الأمور التي لن تعود إلى ما كانت عليه، حتى ولو كان الرئيس الجديد هو نائب الرئيس الذي سبق وأبرم ذاك الإتفاق.
هنا، تظهر بعض المؤشرات التي تثبت رغبة الولايات المتحدة، أو نيتها، في إعادة التفاوض؛ الأمر الأول، إن أياً من الطرفين الدخول في مواجهة مفتوحة أو حتى محدودة؛ بالتالي، إن إعادة التفاوض تعتبر الحل الأمثل.
الأمر الثاني، يريد الجانب الأمريكي تلافي الفجوات الموجودة ضمن “خطة العمل الشاملة المشتركة”، والتي قد تستفيد منها إيران بشكل يخالف مصالح واشنطن في المنطقة.
الأمر الثالث، لا يمكن إنكار ما وصلت إليه طهران من “قوة إقليمية”، سواء على صعيدها هي أو عبر التنظيمات التي تدعمها في المنطقة، وهذه مسألة مهمة تتوقف عندها واشنطن، لا سيما وأن نفوذ إيران اليوم هو أقوى مما كان عليه زمن الإتفاق ويشكل تهديداً لحلفائها أكبر بكثير من ذي قبل. وليس أدل دليل على ذلك سوى قدرة الحوثيين، في اليمن، على ضرب العمق السعودي وتهديد أمن النفط العالمي من خلال إستهداف الشركات والمجمعات النفطية التي تبعد مئات الكيلومترات عن صنعاء.
الأمر الرابع، ما سبق يدعونا للحديث عن هاجس الولايات المتحدة الدائم وهو “أمن إسرائيل”، حيث تعتبر واشنطن أنها مهددة خصوصاً بعد أن أصبحت “إيران على حدودها”، إي وجود حزب الله في لبنان وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين لا بل حتى الحوثيين الذين أعلنوا عن قدرتهم على “ضرب أهداف في عمقها”، بحسب ما قاله العميد يحيى سريع خلال ندوة نُظمت بالعاصمة صنعاء تحت عنوان “الأطماع الإسرائيلية في اليمن”.
الأمر الخامس، هنا يجب علينا التطرق إلى حدث أساسي ومهم وهو إتفاقيات التطبيع التي وقعتها بعض من دول الخليج مع إسرائيل، خصوصاً أن قواعد الإشتباك السياسي في المنطقة قد تغيرت، وهو ما سوف يستغله الرئيس بايدن كورقة قد يستطيع من خلالها إحداث ضغط ما.
في المحصلة، يبدو أننا متجهون، في أي من المديين القريب أم البعيد، نحو العودة إلى التفاوض على إتفاق جديد، أو تعديل للقديم على أقل تقدير، إذ لا شيء يمنع من ذلك خصوصاً وأن لدى الدول القوية عادة رؤى إستراتيجية تستطيع من خلالها توقع كل شي والتنبه لكل شيء.
لكن ذلك لا يعني أنه يجب أن نضع في الحسبان بعض المواضيع المهمة، أبرزها:
1. في إعادة التفاوض بعض من التعقيد لا سيما لجهة ضمه للصواريخ البالستية والدعم الإيراني للتنظيمات الموالية لها في المنطقة، على غرار ما كتبنا سابقاً، حيث أن قبول طهران بذلك سيعني تخليها عن عنصر قوة “وقائي – إستباقي” ضمن أية مواجهة مستقبلية قد تحدث، وهي ليست في هذا الوارد مطلقاً.
-
إن العلاقات القوية الصينية – الإيرانية والروسية – الإيرانية ستكون حتماً، ولو بطريقة ضمنية، على جدول أعمال أي تفاوض مستجد.
-
على الأوروبيون الإسراع بالوصول إلى إتفاق حيث أن هناك من يقول إن التباطؤ في هذا الشأن قد يعطي فرصة لإيران لصنع قنبلة نووية، بحسب وجهات نظر غربية. هذا الأمر قد يعني أيضاً زيادة في إندفاهة إيران نحو الصين وروسيا؛ بالتالي، لن ذلك يصب في صالح الغرب بعمومه.
-
إن الكثير من الأزمات الداخلية الأمريكية قد تشكل عائقاً على مستوى وحجم الضغط على إيران، إذ أن على الرئيس الجديد أولوية “لملمة” الكثير من الآثار “السيئة” لسياسات سلفه المحلية، وهو ما سيؤثر، ولو بطريقة غير مباشرة، على قدرة واشنطن على فرض شروطها كما كانت في السابق.