الدكتور محمود جباعي | باحث اقتصادي ومالي
تتعرّض الجمهورية الإسلامية الإيرانية لعقوبات أميركيّة منذ تأسيسها في العام 1979، من خلال فرض حظر اقتصادي عليها، باستعمال عدة ذرائع في كلِّ مرة تقوم الولايات المتحدة الأميركية بفرض المزيد من العقوبات.
كان آخر هذه الذرائع هو البرنامج النووي الإيراني وسعي طهران، بحسب الغرب، لتخصيب اليورانيوم من أجل استعماله في المجالات العسكرية، وهو ما نفته الحكومات الإيرانية المتعاقبة دائماً، مع تأكيدها المستمر أنَّ هذا التخصيب سيستعمل في الأغراض السلمية فحسب، إلا أنَّ الإدارة الأميركية، برئاسة دونالد ترامب، انسحبت من الاتفاق النووي مع إيران في أيار/مايو 2018، مطلقةً بذلك مجموعةً جديدةً من العقوبات من أجل حصار الشعب الإيراني وإجبار الجمهورية الإسلامية على الرضوخ للشروط الأميركية، التي تعدّ بالمجمل شروطاً سياسية تتعلَّق بالمنطقة وبالصّراع القائم بين محور المقاومة التي تقوده إيران، والمحور الآخر الّذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية.
ركَّزت هذه العقوبات على فرض حظر على صادرات إيران النفطية والبتروكيماويات، وحجز مبالغ مالية ضخمة تعود إلى الحكومة الإيرانية في المصارف الأميركية والأوروبية، وفرض عقوبات على التجارة العامة في إيران، لمنعها من تلبية حاجات سكّانها، من أجل تشديد الخناق عليها.
إيران تواجه الحصار والهيمنة
لم تقف إيران مكتوفة الأيدي أمام العقوبات والحصار الأميركي، بل اتخذت قرار المواجهة وعدم الاستسلام، من خلال سعيها المستمرّ لإنشاء اقتصاد مبني على ناتج محلي إجمالي متين مبنيّ على تطوير القطاعات الاقتصادية المنتجة والبنيوية، وتوسيع نشاطها الاقتصادي مع دول الشرق ودول منطقة أوراسيا، من خلال عقد العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية المفيدة للطرفين، أبرزها:
1- الاتفاقية الإيرانية الصينية لمدة 25 عاماً، والتي تشمل تبادل النشاط والاستثمار الاقتصاديّ في عدة مجالات، ومنها استيراد الصين للنفط الخام الإيراني، وتطوير التعاون في مجال الإنتاج الزراعي والصناعات التكنولوجية. وتقدّر قيمة الاتفاقية بحوالى 500 مليار دولار.
2- اتفاقيّة بين إيران ودول أوراسيا تتعلَّق بالتعاون في مجال إنشاء منطقة تجارة حرة بين دول المنظمة وإيران لتسيير التبادل التجاري في ما بينها. وتُقدَّر قيمة هذه الاتفاقيّة بمئات مليارات الدولارات في السنوات المقبلة.
3- اتفاقيّة إيران مع منظمة شنغهاي التي تضمن 8 دول من منطقة أوراسيا، على رأسها روسيا والصين. ومؤخراً، تم قبول عضوية إيران فيها. وتقدّر قيمة التبادل التجاري بين إيران ودول المنظمة بحوالى 28 مليار دولار سنوياً.
تحويل الاقتصاد الإيراني إلى اقتصاد مقاوم
إضافةً إلى الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية مع دول الشرق حديثاً، كانت الجمهورية الإسلامية قد اعتمدت مفهوم “اقتصاد المقاومة” القائم على مبدأ تحقيق النمو في ظلّ العقوبات الأميركية، من خلال إعطاء أهمية واسعة لتطوير القطاعات المنتجة من زراعة وصناعة، مع التركيز بشكل كبير على تطوير تكنولوجيا المعلومات، لتكون دافعاً قوياً لتطوير القطاعات المنتجة، وهو بالفعل ما حصل، فعلى الرغم من شدّة العقوبات، فإنَّ الاقتصاد الإيراني تمكَّن من زيادة الإنتاج المحلي الّذي ارتفع في العام الماضي بنسبة 0.8%. ومن المتوقّع أن يستمرّ بالارتفاع في الفترة المقبلة إلى حوالى 1.2%، ما يؤكّد أنَّ إيران بدأت تتعافى، على الرغم من كلِّ العقوبات الغربية، وأنَّ اقتصادها بدأ بالنمو من دون الحاجة إلى الغرب.
إنَّ ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي ساهم في تلبية حاجات معظم السكّان، ما حافظ على استقرار اجتماعيّ ومعيشيّ واسع، على الرغم من التأثيرات المباشرة للعقوبات الأميركيّة، وهذا بحد ذاته يعتبر إنجازاً ضخماً بالمقارنة مع عدة دول قضت العقوبات الخارجية على اقتصادها.
الاقتصاد المقاوم يساهم في تنويع الاقتصاد
إنَّ المضي قدماً في تطوير القطاعات المنتجة في البلاد سيساهم على المدى القريب في تمكين إيران من بناء اقتصاد بنيوي ومستدام يتّصف بالتنوع، ولا يعتمد فقط على الصادرات النفطية التي كانت تشكّل القوة الأساسية لتدعيم الاقتصاد الإيراني، علماً أنَّ القطاع النفطي كان يشكّل في فترة التسعينيات ما يزيد على 50% من الناتج المحلي الإجمالي.
واليوم، أصبح يشكل 15% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، ما يفسّر أنَّ العقوبات، على الرغم من شدتها وسلبيتها، ساهمت في دفع إيران إلى التفكير في بدائل عملية إنتاجية جديدة بدأت تؤسس لاقتصاد متين وواسع، سيحولها مع الوقت إلى دولة نفطية إنتاجية، ما سيمكّنها من مواجهة كل أنواع العقوبات في المستقبل.
الخلاصة والعبر
لا ينكر أحد أنَّ للعقوبات الخارجية تأثيرات سلبيّة قوية في الدول المعاقَبة، ولكن تستطيع هذه الدول أن تواجه، كما فعلت إيران، من خلال عدم الاستسلام للهيمنة الغربية. وبالاعتماد على طاقاتها وإيمان شعبها، تستطيع أن تبني اقتصاداً مقاوماً يحررها من الهيمنة والتبعية للغرب، الذي لا يفكّر إلا في استغلال مقدرات الشعوب وثرواتها عبر أساليب مختلفة من الهيمنة والاستعمار.
ويمكننا هنا، بناءً على المعطيات الرقمية والنتائج الاقتصادية، أن نتخذ الجمهورية الإسلامية الإيرانية نموذجاً حياً لكيفية الصمود في وجه كلّ أنواع الغطرسة والاستغلال.
الميادين نت