اعداد مركز الإتحاد للأبحاث والتطوير
خلال أقل من أسبوع تمكن ثلاث فدائيين فلسطينيين منفردين هز أمن الكيان المؤقت بقوة ثلاث مرات في مدن الداخل المحتل عام 1948 (بئر السبع والخضيرة وضاحية “بني براك “في تل الربيع) قلب الكيان المؤقت. تميزت العمليات بدقة التوقيت واستخدام السلاح المناسب واحترافية المنفذين. كما تميزت بنتائجها المباشرة التي أدت إلى مقتل 11 صهيونياً معظمهم من رجال الأمن والمستوطنين. وقد كشفت العمى الاستخباراتي للعدو الذي تسبب بإرباك شديد في الكيان المؤقت ككل. وفرضت على العدو اتخاذ إجراءات لم يسبق لها مثيل منذ سنوات طويلة.
الجديد أن تلك العمليات الثلاثة طبقت بأسلوب الفدائي المنفرد، مما أوقع العدو بعد العملية الثانية التي نفذت في الخضيرة بإخفاق فاضح في التقدير. وقامت أجهزته الأمنية بوسم المنفذين بأنهم أعضاء في تنظيم داعش الإرهابي، لاعتبار أن أسلوب تلك العمليات يحاكي أساليب داعش. إلا أن ادعاء خبراء الأمن الصهاينة هذا سقط فوراً عندما تكشفت هويات المنفذين وخصوصاً المنفذ الثاني الذي تبين أنه أحد فدائيي كتائب شهداء الأقصى التي تزعم أجهزة الأمن العدو أنها الجناح العسكري المقاوم لحركة فتح.
سنحاول قدر الإمكان في هذه العجالة تحليل هذه العمليات المظفرة الثلاث مجتمعة عسكرياً من خلال عرض تكتيكاتها على قوائم مبادئ ومدارس الحرب المعتمدة في الفن العسكري الحديث.
تنتمي العمليات الثلاث إلى مدرسة الحرب اللامتماثلة التي تعتبر أحدث مدارس الدفاع عن الأرض بأساليب جديدة أو مبتكرة لا يتوقعها العدو والتي تحقق الغرض التعبوي (العملياتي) منها بشكل فوري لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها هنا.
ماهية الحرب اللامتماثلة
بداية لا بد من تعريف مختصر لهذا الشكل من الحروب حتى تتضح الفكرة حيث: “تشكل (الحرب اللامتماثلة – Asymmetric warfare) في مفهومها البسيط، تعبيراً عن التفاوت في القدرات العسكرية، تنظيماً وتسليحاً وتجهيزاً، للأطراف المنخرطين في المواجهة. لكنها، وبما هو أبعد، تعني نظامًا مختلفاً للصراع يخاض، من جانب القوى الأضعف، من خارج المعايير المتداولة للحروب التقليدية التي تتبناها الجيوش النظامية، إن على مستوى التكتيكات والاستراتيجيات، أو على صعيد فلسفة الحرب وأهدافها ككل. “
وتجد الجيوش والقوات النظامية التقليدية مهما بلغ تسليحها وتدريبها صعوبة كبرى في مواجهة هكذا نوع من المواجهات، لأنها تحارب عدواً يعمل بنظام لامركزي ويعتمد جزئياً على مبادرات ذاتية متجددة الوسائل ولا يقوم على نمط محدد للمعارك ولا يتطلب لتحقيق أهدافه بالضرورة عتادا كثيفا أو حتى أسلحة ويستخدم عنصر المفاجأة. كما أنه من خلال مستوى تأثيره عندما ينفذ عملياته يصبح “جيشاً في رجل“
لذا فإنه من الصعوبة بمكان أن يتوقع العدو التغلب على هكذا خصم منتشر ومتعدد الأوجه باستراتيجيات الأمن والحرب التقليدية وتكتيكاتها. حيث لا يمكنه المناورة ولا الخداع والإبداع الاستراتيجي والسرعة وتغيير ساحة ومكان المعارك واستخدام تقنيات وأسلحة الحرب والقتال المتقدمة والمتطورة، لتحقيق انهيار الخصم (وليس بالضرورة القضاء عليه)،
فخلافاً للحرب الكلاسيكية التي تعتمد على الحسابات والعناصر التي تحقق التطبيق الأمثل لمبادئ الحرب، تسقط في الحرب اللامتماثلة معظم الاعتبارات التكتيكية والتعبوية التي ارتكزت عليها الحروب الكلاسيكية لمئات السنين، لمصلحة منظومة قتالية مختلفة، تصبح الأفضلية فيها للأفراد والمجموعات الصغيرة والجمهور الكبير والقوى المنخرطة في مواجهة الجيش المحتل ومجتمع الاحتلال (العدو)، وعلى النحو الذي يسمح لتلك القوى بإجهاض وتعطيل مكامن القوة والتفوق عند الطرف الأقوى وهو العدو، وجره إلى مواجهات من النوع الذي يلائمها، والذي يسمح على المدى الطويل باستغلال نقاط ضعف هذا العدو واستنزاف قواه في سلسلة واسعة من الاشتباكات الصغيرة المجهدة التي تعتمد على الخداع والتمويه واخفاء الهدف والمباغتة.
جوهر وقيم الحرب اللامتماثلة
خلافاً للحرب الكلاسيكية التي تحسب فيها الأطراف موازين القوى التي يتداخل في تكوينها حجم القوات ونوعية أسلحتها وتقنياتها تبدو معادلة النتائج في الحرب اللامتماثلة مناقضة تماماً بحيث يمكن للفريق الأضعف الذي قد يكون فرداً أو أكثر التعويض عن ضعفه وقلة امكانياته في هذه الجوانب باستثمار عناصر أخرى تتلاءم بشكل متناسب مع هذا النوع من الحروب.
والعناصر التي يعتمدها الضعيف عادة ليتفوق فيها على القوي أو القوة الغاشمة هي: 1- لا محدودية الهدف الذي تسعى إليه القوة الأضعف (تحرير فلسطين (
2- الاشتباك المستمر بالوسائل المناسبة وعدم قطع الاشتباك مع العدو مهما انخفضت حدة هذا الاشتباك
3- فرض الضعيف القادر على التحدي والمواجهة لنموذجه كمثال لعناصر المجتمع والأمة التي لم تنخرط بعد في القتال وتقديم الدليل على امكانية موازنة أو تحدي أو هزيمة العدو.
ويعتمد كل ذلك على منظومة ذات ركائز ثلاثة وهي:
1- نوعية الاشتباك الذي يخوضه الاضعف
2- حرية اختيار مكان المواجهة وزمانها وفرضهما على العدو
3- إخفاء الهدف حتى لحظة التنفيذ أو الاشتباك الذي غالباً ما يكون مخالفاً للنمط الذي يتوقعه أو يألفه العدو.
إنهاك و “إرهاب “العدو
على الرغم من أن العدو دائم التدرب ودراسة واستخلاص العبر من العمليات أو فعالية الميدان إلا أن طبيعة المدرسة أو الأسلوب الذي يطبقه الفدائي المنفرد هو جهاد “الإرهاب “الفردي واعمال اشتباك الخلايا الصغيرة المفككة عن بعضها كليا التي تشمل العمليات الفردية التي قام بها أفراد أو مجموعات صغيرة بشكل غير منظم في معظم الأحوال، وذلك لأن هذه العمليات العفوية من قبل أفراد وخلايا هنا وهناك، من غير رابطة بينها، تدخل أجهزة الاستخبارات في حالة من العمى والارباك إذ أن الفدائي يتحرك ويستطلع ويخطط وينتقي الهدف بنفسه مما يجعل كل أجهزة الكشف والتوقي لدى العدو غير ذات جدوى.
- تحقق العمليات الفدائية المنفردة نجاحا أمنيا على العدو لأن العمليات العفوية من قبل أفراد وخلايا هنا وهناك، على مدى اتساع الميدان المستهدف وهو فلسطين من غير رابطة بينهم يستعصي إجهاضها من الناحية الأمنية
- تحقق العمليات الفدائية المنفردة نجاحا هو الأساس في إنهاك العدو وإيصاله إلى حالة الانهيار.
- هذا النمط من الاشتباك الفردي المستنبت من الحرب اللامتماثلة وهو النمط الأحدث من حروب العصابات الذي يمهد لنوع آخر من حالات الاشتباك وهو (“جهاد “الجبهات المفتوحة)، ويساعده ويرفده.
- يقوم عمل الفدائي الفردي بالأساس على ممارسة “الفدائي ““عضو المقاومة اشتباكه الفردي في أرضه حيث يعيش ويقيم، ومن دون أن يكلفه ذلك مشقة السفر والهجرة والتحرك إلى حيث يمكنه “الجهاد “المباشر.
- إن الأساس في عمليات الاشتباك الفردي هو الدافع المعنوي وإرادة القتال وليس زيادة المعرفة بأسلحة لن يستخدمها العنصر المنفرد عمليا.
- الفدائي المنفرد الجديد والمحسن لديه حرية التحرك لتنفيذ العمليات، وهو ما يصعب رصده، قبل تنفيذ عمليته وضرب أهدافه، هذا يضاف إلى تنوع وسائله في القتل، بين الدهس أو الطعن أو أو الاغتيال أو التفجير.
فالعمليات الثلاث الأخيرة وما شهدته من تغييرات في أساليب التنفيذ وفي الموارد البشرية المعتمدة تشي بوجود نزوع نحو ما يسمى بـ “تحرير المبادرة “وإطلاق أيدي الفدائي المنفرد في التنفيذ، أولا لعامل المباغتة وقلة “كلفة “العمليات المنفذة من أفراد أو مجموعات صغيرة متحررة من الروابط التنظيمية التقليدية.
حوادث كثيرة تمت نسبتها للفدائيين المنفردين تشير إلى أن الاشتباك الفردي لم يعد قاصراً على الجماعات المركزية العنقودية وعلى اعتماد التراتبية التنظيمية، بل تحوّل إلى أعمال تطوعية ذاتية قادرة على تجاوز الأفكار الكلاسيكية واكتشاف طرق جديدة لتنفيذ العمليات ضمن الإمكانيات المحدودة والفردية، لتصنّف الأخطر بالنسبة إلى أجهزة الأمن والاستخبارات الصهيونية وتكمن كارثية هذه الظاهرة على العدو في التالي:
- صعوبة كشف منفذيها أو آلية تسييرهم،
- وحدة الأهداف واختلاف طريقة التنفيذ والأسلحة المستخدمة،
- أغلب المنفذين لا يثيرون الشك في سلوكهم وحركتهم اليومية، ويقومون بتنفيذ العمليات دون مساعدة من الآخرين على الأقل من ناحية التمويل فمعظم العمليات تعتمد التمويل الذاتي المحدود والاستعانة بالمواد التي يمكن الحصول عليها في الأسواق دون جلب الانتباه والمراقبة، أو استخدام أيّ سلاح فردي متوفر حتى لو كان فأسا، سيفا، أو ساطورا.
- عدم معرفة كيفية تجنيد المنفذ أو انتماءه الفصائلي، إذ سهلت وسائل الاتصال والتكنولوجيا وتطور تشفير الاتصالات ترتيب المخططات وتطبيقها في الواقع الافتراضي وعلى أرض الواقع الحقيقي دون لفت الأنظار.
- استفادة الجهات التي تجند هؤلاء الفدائيين الفرديين من عدة وسائل لتحقيق تواصل فعال معهم وأجادت فن الاستقطاب والترويج والإقناع، من هذا التطور التقني في بناء مجتمعات على الإنترنت تعزز الشعور بالانتماء والهوية الفلسطينية، وتستطيع من خلالها تجنيد الأفراد والتنسيق لهجمات دون أن الالتقاء بمنفذيها.
- اقتصار دوافع الفدائيين الفرديين على العامل الوطني، وقد ضاعف تركيز وثبات دوافع هؤلاء المجهولين من شدة القلق من هذه الظاهرة إلى حدّ وصفها بالكابوس الجديد.
- حرية حركة الفدائيين المنفردين في مناطق مأهولة بالسكان يمنحهم قدرة على ممارسة عملياتهم بصورة منفردة بسهولة. نظرًا لأنهم يمتلكون المعرفة اللازمة للتعامل مع الأسلحة والذخائر، وتنفيذ تلك العمليات التي لا تحتاج لتخطيط كبير بسهولة.
هذه النقاط وغيرها تجعل من الفدائيين المنفردين بمثابة جيوش خفاء لا يمكن مكافحتها بأساليب تقليدية أو الحدّ منها أو السيطرة عليها بسهولة.