أوهام “التقسيم” وأخطاء اللبنانيين التاريخية

ليلى نقولا | أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

تزامناً مع كلّ أزمة سياسيّة، تطلّ بعض الأصوات اللبنانية، وخصوصاً المسيحية، لتطالب بتقسيم لبنان تحت مسمى “الفيدرالية” التي وصلت بالبعض إلى تسويق خريطة المتصرفيّة، للقول إن “لبنان الكبير فشل بحدوده وصيغته الحالية”، وبالتالي على المسيحيين المطالبة بكيان أصغر والانفكاك عن الوطن “الأم”.

واللافت أنَّ معظم هؤلاء ينتمون إلى فكر بشير الجميل، علماً أن الأخير في بداية صعوده السياسي في القوات اللبنانية طرح فكرة “الكونتون المسيحي من كفرشيما إلى المدفون”، ثم ما لبث أن تنازل عنها بعد وصوله إلى رئاسة الجمهورية، فنادى بـ 10452 كلم2، أي بلبنان الكبير بحدوده الحالية. وقد أدّت محاولة القوات اللبنانية بعد اغتيال بشير الجميل لفرض هذا المشروع إلى مآسٍ كبيرة دفع المسيحيون ثمنها غالياً.

ومع مجيء دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة، ودخول لبنان في أزمات سياسية واقتصادية عميقة، تحمّس البعض لإعادة إحياء طروحات الفيدرالية، متكلين على خطاباته الشعبوية – اليمينية، معتبرين أن الوقت حان لتطبيق الطروحات اليمينية في العالم بشكل عام، وبالتالي لا مشكلة في إعادة طرح فكرة “القومية اللبنانية” التي تجد أن لبنان الكبير كيان مصطنع غير قابل للحياة، وأن لبنان – المتصرفية ككيان متخيّل – فيه غلبة طائفية – هو البديل الأنسب للمشاكل التي يعانيها اللبنانيون ولفشل نظامهم السياسي.

ولكنّ المشكلة لدى هؤلاء وغيرهم، عدم الاتعاظ من التجارب، وعدم استخلاص العبر من التجارب الفاشلة لتحاشي تكرارها في المستقبل، وخصوصاً محاولة ملاقاة التصعيد الأميركي في المنطقة، الذي سرعان ما يتراجع ربطاً بالمصالح الأميركية في لبنان، ونذكر بعض الشواهد التاريخية على سبيل المثال لا الحصر:

وتطبيقاً لتلك الاستراتيجيّة، نبّه الرئيس أيزنهاور من نظرية الدومينو التي تعني أنَّ وقوع أي دولة من الدول في قبضة الشيوعية، سيؤدي إلى إضعاف الدول المجاورة ووقوعها هي الأخرى، ما جعله يطلق مشروعه لمنطقة الشرق الأوسط في العام 1957، لسدّ الفراغ الاستراتيجي الذي تركه انحسار النفوذين البريطاني والفرنسي، لئلا يستغلّه السوفيات.

بالطبع، كان للبنان حصّته، فأيّد الرئيس كميل شمعون مشروع أيزنهاور، وانضم إلى حلف بغداد، ما أدى إلى ثورة في العام 1958 دعمها الرئيس جمال عبد الناصر. لم يكن الدعم الذي قدمه الأميركيون لحليفهم اللبناني أو العراقي كافياً، فحصل انقلاب عسكري في العراق أطاح بالمملكة الهاشمية، وحصلت تسوية أميركية مع عبد الناصر أوصلت العدو السياسي للرئيس شمعون، اللواء فؤاد شهاب؛ قائد الجيش الذي امتنع عن زج الجيش في الصراع الداخلي، ولم يقمع الثورة كما أراد شمعون أن يفعل.

هذا الخذلان لم يمنع صفير من المساهمة في إضعاف ميشال عون والسير في مشروع “اتفاق الطائف” الّذي قلّص صلاحيات الرئيس المسيحي في النظام، وحوّل صلاحياته إلى رئيس الوزراء والحكومة مجتمعة، كما لم يمنع قائد القوات اللبنانية سمير جعجع من التحرك، بعد دعوة السفير الأميركي جون مكارثيّ له – خلال زيارته لإهدن- “للوفاء بوعده والتحرك ضد الجنرال ميشال عون”. وعلى الرغم من تلك المساهمات في إسقاط حركة ميشال عون في العام 1990، غضّ الأميركيون النظر عن سجن جعجع خلال عهد الرئيس السابق الياس الهراوي.

وفي نتيجة التصعيد الذي قام به الوزير وليد جنبلاط، والذي أعقبه قرارات حكومية أقرّتها حكومة السنيورة ضد شبكة اتصالات حزب الله في 5 أيار/مايو 2008، حصلت أحداث 7 أيار/مايو 2008، واستطاع حزب الله أن يسيطر على الوضع الميداني في فترة قصيرة جداً… وكان أن اكتفت الإدارة الأميركية ووزيرة الخارجية آنذاك كوندوليزا رايس بإصدار “بيان إدانة” ودعوة تيار المستقبل والوزير جنبلاط للذهاب إلى تسوية في الدوحة.

إذاً، هي أمثلة تشير إلى أنَّ الدول الكبرى لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها، وأنها سرعان ما ستتخلّى عن حليف ضعيف لم يستطع فرض قوته على الأرض، لتعقد تفاهمات مع خصومه الأقوياء.

من هنا، إنّ بعض اللبنانيين الذين اعتقدوا أنهم قد يحصلون على دعم إدارة ترامب في المنطقة لتحقيق أحلام الانفصال والكونتونات الطائفية والمذهبية – التي تخدم الفكرة الإسرائيلية حول “يهودية الدولة” وعدم إمكانية التعايش من ضمن التعددية – لا يفهمون الجغرافيا والجيوبوليتيك، ولا يتقنون الاستفادة من عبر التاريخ.

وها هي إدارة ترامب قد رحلت، ورحل معها مشروعها للمنطقة، لتحلّ مكانها إدارة جديدة ترفع شعار “تعزيز التعددية الحضارية” ومكافحة “التمييز العنصري”. وبالتالي، لن يكون هناك مكان للطروحات التقسيمية اللبنانية خلال السنوات الأربع القادمة، لكن، وكما تشير التجارب، من المتوقع أن تعود لتظهر بالتزامن مع المشاكل السياسية الداخلية وفي ظلّ إطارٍ دوليّ وإقليميّ مساعد.

الميادين

Exit mobile version