د. رفعت بدوي – باحث لبناني في الشؤون السياسية والإستراتيجية
عندما يستهل الرئيس الأميركي عهده بمخاطبة الرأي العام الأميركي بالقول: لا يمكننا ترك الأميركيين يجوعون أو يطردون من بيوتهم أو يفقدون وظائفهم، فهذا معناه استشعار بخطر تصدع المجتمع وأن ما يواجه الداخل الأميركي من خطر ليس نتاج أسباب خارجية إنما نتيجة معضلة داخلية تكمن في ازدياد الفجوة بين مختلف ألوان وأطياف وطبقات الشعب الأميركي، وذلك بعد استشراس الرأسمالية الأميركية لصالح تعزيز سطوة شركات التكنولوجيا والصناعات العسكرية المرتبطة بالدولة العميقة ارتباطاً وثيقاً.
يجري ذلك على حساب إهمال الرعاية الصحية والعائدات المالية والتعويضات الاجتماعية التي تخص عامة الشعب، إضافة إلى انكشاف وإخفاق وعجز الإدارة في مواجهة جائحة كورونا تاركة الشعب الأميركي يواجه مصيراً قاتماً.
بدا الداخل الأميركي في مشهد غير مألوف فهناك مشاكل عدة تفاقمت منها المشكلة المزمنة وهي عنصرية اللون بين أبيض وأسود، وازدياد الفارق الطبقي في المجتمع الأميركي بين مواطن ومهاجر، إضافة إلى تراجع واضح في ميزان الناتج القومي وانخفاض معدل النمو الاقتصادي لأدنى مستوى منذ عقود خلت نتيجة العوامل التي ذكرت والتي أسهمت في تعميق الفوارق الطبقية أدت إلى تصدع حال الاتحاد وإلى تعميق الشقاق بين مختلف مكونات المجتمع الأميركي لتنتقل أميركا بعدها إلى مرحلة أخطر وهي مرحلة الانقسام العمودي على مستوى الشعب بين مناهض لسياسات الدولة العميقة وبين مؤيد للرئيس السابق دونالد ترامب الذي اجتهد في تعصبه لمصلحة أميركا بمعزل عن أجندة الدولة العميقة ولو كان ذلك عن طريق السطو على ثروات دول خارجية أو خليجية لتوظيفها في مصلحة بنوك أميركا ولمصلحة الشعب الأميركي.
لم يكن أداء ترامب مرضياً عنه من قبل الدولة العميقة التي اتخذت قرارها بوجوب تجيير كل إمكانات الشركات الكبرى بالابتعاد عن دعم ترامب وإغلاق منصات التواصل المؤثرة وممارسة التعتيم الإعلامي بوجهه وتوجيه الأنظار نحو شيطنته للإطاحة به بل ومحاكمته وذلك لقطع الطريق مستقبلاً أمام أي إمكانية لعودته إلى الحياة السياسية في أميركا.
انقسم المجتمع الأميركي بين مؤيد لدونالد ترامب وبين مؤيد لجوزيف بايدن الموصوف أنه سليل الدولة العميقة، انقسام تُرجم بأعمال شغب وفوضى في الشارع الأميركي، نتج عنه ما عرف بـ«غزوة الكابيتول»، فضاعت الديمقراطية في زواريب واشنطن الأمر الذي أدى إلى احتلال المبنى لساعات، ما استوجب استدعاء أكثر من 35000 من أفراد الحرس الوطني الأميركي لإنهاء احتلال الكابيتول، وهكذا استطاعت الدولة العميقة فرض ديمقراطيتها بقوة العسكر وبالتالي تثبيت فوز مرشحها بايدن رئيساً لأميركا.
انقسم المحللون وأصحاب الرأي بين إمكانية تجاوز أميركا الانقسام الداخلي بترميم الديمقراطية فيها، وبين من رأى أن ما شهدته أميركا مؤخراً خلق مناخاً جديداً سيعمق الانقسام مستقبلاً خصوصاً أن قسماً وازناً من المجتمع الأميركي تذوق طعم التمرد على الشرعية في محاولة لمنعها من فرض ديمقراطية مزيفة وأنه لن يكون باستطاعة أميركا تجاوز ارتدادات ما حصل لأنه سيشكل عاملاً ضاغطاً على الإدارة الأميركية للانكباب على ترميم ديمقراطيتها المعتلة وللبحث عن السبل الآيلة لإصلاح البيت الأميركي الداخلي.
بعد دخوله البيت الأبيض صرح بايدن أن أولوياته هي إعادة اللحمة وتعزيز حالة الاتحاد في المجتمع وهذا دليل بأن إرهاصات الانقسام الداخلي قد بلغت مرحلة خطيرة إلى مستوى غير مسبوق في تاريخ أميركا وباتت معها تهدد أسس النظام وإن إصلاح ذات البين في الداخل الأميركي سيحتاج إلى وقت طويل.
وبالانتقال إلى منطقتنا العربية وأزماتها المفتوحة نرى أن بعض الجهات تعول على تغيير في نمط سلوك الإدارة الأميركية الجديدة وأنها ستكون أكثر عقلانية من سابقتها في التعاطي مع القضية الفلسطينية وإيران وسورية والعراق واليمن ولبنان.
وفي نظرة سريعة على مكون أعضاء إدارة بايدن يتضح لنا عبثية هذا التعويل لأن مكونات الإدارة هم داعمون للعدو الإسرائيلي بشكل مطلق وهم أنفسهم أصحاب فكرة تقسيم العراق، وهم من رافضي تنفيذ الانسحاب الأميركي من سورية وهم الداعون للاستيلاء على نفط العراق وسورية وهم أصحاب مشروع اقتطاع شرق الجزيرة عن سورية وتنصيب شخصية سورية رئيساً عليها شبيهة بـ«خوان غوايدو» في تكرار للسيناريو الفنزويلي لإبقاء المنطقة بحالة اضطراب مع حروب مفتوحة بالوساطة من خلال إعادة الحياة إلى الربيع العربي وإطلاق جديد لتنظيم داعش في كل من سورية والعراق ولبنان وتنظيم الإخوان في كل من تونس ومصر والسودان وليبيا.
في روسيا افتتحت إدارة بايدن عهدها بتورط فاضح في محاولة افتعال ربيع روسي من خلال استثمار قضية الجاسوس الروسي ألكس نافالني.
وبالنسبة لإيران وبرغم إعلان بايدن رغبته بالعودة إلى الاتفاق النووي مع طهران، بيد أن الدولة العميقة في أميركا صعّدت من شروطها مضيفة ملفي برنامج إيران الصاروخي وانضمام دول الجوار بما فيها العدو الإسرائيلي بحجة تطوير الاتفاق.
إلا أن جواب إيران كان واضحاً بأن لا عودة للاتفاق قبل إزالة العقوبات المفروضة عليها وأعلنت رفضها تنفيذ شروط الدولة العميقة بلاءات البحث في ملف البرنامج الصاروخي ورفضها انضمام دول المنطقة للمفاوضات بيد أن حقيقة الأمور تشي بأن الدولة العميقة لا تريد إنجاح المفاوضات مع إيران بل إنها تجهد لبناء حلف عسكري تكنولوجي اقتصادي بين الدول الخليجية مع العدو الإسرائيلي ليس لتحصين شروط الاتفاق إنما لإنشاء جبهة عربية صهيونية موسعة لمواجهة إيران ودول محور المقاومة وذلك لتنفيذ ما تبقى من صفقة القرن وإنهاء القضية الفلسطينية ما يؤكد أن الدولة العميقة غير راغبة بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران.
صحيح أن الاهتمام الأميركي حالياً منصبٌ على تلميع صورتها عالمياً من خلال إعادة الانخراط في معاهدات دولية مثل معاهدة المناخ في باريس وإعادة العمل باتفاقية سارت للحد من انتشار الأسلحة النووية لكن الهدف الأساسي لإدارة بايدن هو إعادة ترميم التحالف الأوروبي الأميركي وربطه بها لتشكيل جبهة مواجهة ضد الصين وروسيا وإيران لذلك نرى تناغماً فرنسياً ألمانياً لتنفيذ رغبات إدارة بايدن الموالية للدولة العميقة في أميركا تحمل معها مؤشرات استمرار تصعيد الحروب بالوساطة في دول المنطقة الداعمة لمحور المقاومة مترافقة مع ضغط اقتصادي وعسكري متواصل.
علمنا التاريخ أن الديمقراطية المفروضة بواسطة العسكر كما حصل في واشنطن ما هي إلا ديمقراطية مزيفة ومعتلة لا يمكن اعتمادها كأساس يبنى عليها كقدوة في إدارة الدول أو لإنصاف الشعوب في قضاياهم المحقة.