محمود بري | كاتب وباحث لبناني
ما شهدته أفغانستان منذ أيام لم يكن هزيمة نكراء للهيبة الأميركية كما يجري التسويق. لماذا لا يكون الأمر غير ذلك تماماً… مشروع خدعة كبيرة تنطوي على لغم عنقودي أكبر؟
أولى ملاحظاتي تشير إلى أن هذه “الهزيمة” الأميركية المجلجلة، تبدو مُصطنعة بطريقة ما، وأشبه ما تكون بعملية تسليم وتسلّم بين الأميركي وحركة طالبان. وبالمتابعة في هذا الاتجاه يمكن افتراض أن الأمر برمته جرى طبخه ببطء وبراعة على نار تتخفّى وراء تفاوض رسمي شكلي بوشر في العام 2018 في الدوحة بقطر، ولم يكن أكثر من واجهة دعائية لمجرد الإلهاء، بينما كانت الخطوط الرئيسة للاتفاق الحقيقي قد اكتملت في السرّ بين المتفاوضَين المُحرجَين: الأميركي المُستعجل على الخروج من ورطته بمنح “نصر” لطالبان المحتاجة إليه، مقابل إمساكه بخيوط لعبة واعدة ومعقدة سيلعبها، والطالباني المستمتع بالصعود إلى سطح العالم (أخيراً) بعد عقدين من التنفس تحت أثقال تهمة الإرهاب الدولي ووابل القصف الأميركي الذي لا يرحم.
الواقع أنه من المُستغرب أن ينتبه الأميركي بشكل يكاد أن يكون مسرحياً إلى حراجة وضعه وسط غبار أفغانستان القاتل، فيُقدم عى الاعتراف المفاجئ من دون داعٍ واضح بسقوط 2300 قتيل من جيشه خلال عشرين سنة من محاولة كسر شوكة شعب امتهن افتراس القوى العُظمى خلال تاريخه، فضلاً عن سقوط أكثر من 20 ألف جريح أميركي، مع أعداد غير محدودة ولا مُعلنٍ عنها من ضحايا حالات الانتحار في صفوف القوات الأميركية والغربية العاملة في حروب كرّ وفرّ مُجهدة أنهكت فرق النُخبة في الجيش الأميركي وأذلّت العديد من أفواجها (ما استولد سلسلة أفلام “رامبو” للتعويض)، نادباً بشخصيته الكلامية الباهتة، إنفاق واشنطن أكثر من تريليون دولار (حسب الرئيس الأميركي نفسه) على غير جدوى… ليقف “جو بايدن” أخيراً أمام الرأي العام بعد “اكتشافاته” المثيرة هذه، ليُعلن على حين غرّة أنه “حان الوقت لإنهاء أطول حرب خاضتها أميركا”.
إن تسلسل الوقائع بهذه الطريقة المجدولة بأسلوب تقارير أجهزة الاستخبارات حمل في سياقه مقتل واقعيته وصدقيته. وسريعاً، في اليوم التالي مباشرة، أطلقت الجهات الأميركية المعنية آلية انسحابها الدراماتيكي (المتواصل) من أفغانستان عبر مطار كابُل بعد أن كانت أخلت بقية البلاد، وأغرقت الإعلام العالمي بطوفان الأخبار التي لا تنتهي ومقاطع الفيديو المثيرة، بما فيها مشاهد تساقط البشر من عن أجنحة طائرات الشحن المُحلّقة في الأعالي، ما اجتذب العالم إلى ظواهر مشغولة بعناية للتخفية على أمر آخر. هذا أمام الكاميرات. أما في الغُرف المقفلة فلربما كان المعنيون من الجانبين يجمعون وثائق التفاهمات المطلوب إخفاءها، والتي أنجزوها بينهم على مختلف التفاصيل، بما يبني بين طالبان المسيطرة على أفغانستان من جهة، ووكالة الاستخبارات الأميركية من الجهة المقابلة، ما سبق أن بناه الأميركي مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق في حزيران 2014 . وبهذا يجري إطلاق يد طالبان في أفغانستان كما أُطلقت يد داعش في العراق، ويتراصف التنظيمان الإرهابيان في الطابور ذاته بما يُتيح لواشنطن، ومن أفغانستان هذه المرة، إطلاق فصل جديد مُبتكر من لعبة البلياردو الدولية التي دأبت على ممارستها تحت يافطة “محاربة الإرهاب”.
الواقع أننا رأينا وتابعنا ما أنتجه وينتجه الاتفاق الأميركي- الداعشي غير المعلن في العراق. أما ما يرسم الأميركيون إلى تحقيقه من خلال خروجهم الاستعراضي من كابُل، فيتصل بالواقع الاستراتيجي بالغ الحساسية للبلاد الأفغانية المترامية وسط حقل خصب من مشاريع الطموح الإمبريالي الأميركي في إقليم وسط آسيا.
وهنا لا بد من الإستعانة بالخريطة.
تتوسط أفغانستان مجموعة من الدول التي تأتي على رأس أوليات اهتمام واشنطن. من إيران أولاً، بما تشكله من ثقل استراتيجي هام في منطقة الخليج النفطي، ومن ندّية مقابل واشنطن الباحثة عن سُبل جديدة لاحتوائها؛ إلى طاجيكستان، الحديقة الأمامية وليس الخلفية لروسيا المستمرة في الصعود؛ وصولاً إلى الصين التي ترى فيها واشنطن أبرز تهديد عالمي لهيمنتها الاقتصادية والعسكرية.
هنا تتخذ الخصوصيات الإشكالية أهمية استراتيجة واضحة وجديرة بأن تفرض توافق الذئب الأميركي مع طالبان “الإرهابية”: فقبائل البشتون التي تشكّل العمود الفقري لطالبان والأكثرية الطاغية من قياداتها وعماد مسلّحيها، تجد في بشتون الباكستان المجاورة شقيقاً لها على الأساس القبائلي. وهذا عنصر قوة إضافي لواشنطن في كراتشي ومنها في المنطقة. لكن الأهم هو إمكانية الدخول الأميركي من خلال طالبان على خطّ العلاقة الوثيقة بين طاجيكستان وإيران من جهة، وبين الطاجيك وروسيا من جهة ثانية. فالطاجيك من الشعوب الفارسية أساساً، وينظرون إلى الإيرانيين نظرتهم إلى أشقاء، والعلاقات التبادلية ناشطة بين الطرفين، ما يمكن أن يفتح مجالاً للتسلل الأميركي…
ومن الجهة الثانية لا تقل أهمية، فطاجيكستان هي الحليف الوثيق لروسيا بوتين، وموسكو هي العرّابة المُعلنة لتلك الدولة التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق، ولرئيسها الحالي “إمام علي رحمانوف”، كما إن للروس قواعد عسكرية عديدة على أراضيها. ومن خلال تفاهمه مع طالبان، يبحث الأميركي عن السُبل الممكنة للولوج إلى كلٍ من إيران وروسيا، عبر طاجيكستان المحاذية لأفغانستان على امتداد أكثر من 1300 كلم من الحدود المشتركة. وهذا ما قد يمنحه الفرصة للعبث داخل أمعاء أعدائه إن استطاع، أو ربما ينفخ أوهامه بتقويض النظام الإيراني أو حتى ببعثرة حجارة الاتحاد الروسي وهدمه.
وإضافة إلى كل ذلك، فهناك الصين أيضاً. ولئن كانت حدودها قصيرة مع أفغانستان (حوالى 75 كلم. فقط) إلا أنها ذات قيمة مميزة للأميركي. فالأراضي الصينية المحاذية تمتاز بشدة وعورتها وبكون أغلبية المقيمين فيها من المسلمين، وفي طليعتهم قبائل “إيغور” المعروفين بتشددهم وبانضواء كثيرين منهم في صفوف داعش. وهذا يمكن أن يحوّله الأميركي إلى أفضلية من خلال طالبان.
هذا كلّه يبرر ويكشف الكثير من الحقائق المخفية وراء ستائر “الهزيمة الأميركية في أفغانستان”.
لذا، فمن الأنسب للمحتفلين بهزيمة الأميركي (المُذِلّة)، أن ينتبهوا إلى القسم الآخر غير الظاهر، من الحدث. ففي تلك الأصقاع التي لم تتغير سمات أهلها كثيراً عبر التاريخ، لا تزال الأمثال القديمة ذات قيمة وصدقية، ومن الممكن بالتالي أن يكون السمّ في الدسم.