نارام سرجون | كاتب سوري
أستاذ نارام سرجون المحترم
انا وطنية واحب بلدي الى حد العبادة ولكن أنا من الناس الذين يرون ان من قطف ثمار الحرب هم الأثرياء وأن ابناء الفقراء لايزالون فقراء رغم انهم هم من ماتوا وجاعوا وحوصروا وذبحوا ؟ ألا ترى عيوننا السيارات الفارهة فيما طوابير الفقراء يبحثون عن الخبز والطحين واللقمة؟ اسئلة احس بالحرج عندما اريد ان ادافع عنها امام البعض واعتقد انك لاتقدر على الاجابة عنها وانا اعذرك لأنها اسئلة لاتقدر ان تواجهها رومانسيتك الوطنية. اتحداك ان تساعدني في الاجابة على هذا السؤال الذي صرت أهرب من الخوض فيه. فهل تقدر ان تخوض فيه ايها الفارس النبيل دون ان تغرق؟ كل من خاض فيه غرق
ليلاس .
ياصديقتي
يذكرني هذا السؤال بسؤال كان هو رأس الرمح في بداية الحرب على سورية ويتسلح به المعارضون في أول النقاش ووسطه وأخره وهو: هل تنكرون حقنا في الحرية والديمقراطية والتظاهر؟ هل ترفضون الديمقراطية؟ هل تقبلون بحكم عائلة؟ .. طبعا كلام حق يراد به باطل .. وأنا لاأتهم سؤالك ان به باطلا بل اقول انه سؤال مشروع ولكن فيه ألغاما كثيرة وفخاخا بسبب التوقيت في زمن الحصار والحرب .. وارجو ألا تسيئي فهمي وتظني انني لاأوافقك على أسئلتك .. فكل ماتقولينه صحيح .. ولكن هذه الأسئلة الحقيقية تشبه الايقونات .. وتشبه التماثيل والنحت الرخامي في سفينة تتعرض للعواصف .. ففي وقت العواصف لاتتمسكي بالتماثيل الرخامية .. ولاتحمليها معك الى قوارب النجاة .. انقاذ البشر أهم من انقاذ التماثيل والايقونات .. وانقاذ الناس أهم من تطبيق العدالة ..
ومع هذا اياك ان تظني ان الغرق يهدد من يجيب صادقا .. الغرق سيكون من نصيب كل من يحمل سبائك الذهب في جيوبه ويخوض في الماء .. فأثقال الذهب تشد صاحبها الى القاع مهما كان فنانا في العوم .. وسيكون الغرق أيضا من نصيب من يحمل التماثيل الرخامية على ظهره لتثقله مثل أسئلة ذهبية ليست في وقتها .. فمن يسبح في بحر هائج لايمسك تمثالا في السفينة التي قد تغرق بل يمسك كل مايساعده على الطفو والعوم والسباحة .. أمثال هذه الاسئلة عن العدالة في زمن الحرب والحصار يتم تحميلنا بها في المعركة من قبل جهات تريد منا ان نسبح وننقذ الايقونات وتماثيل المثاليات ونملأ قواربنا بالحجارة والذهب فيما يغرق البشر ..
وانا لاأحمل الذهب عندما اخوض في دوامات الماء .. ولاأنشغل بانقاذ التحف والتماثيل والايقونات في الحرب فيما مهمتي هي انقاذ الناس وتجهيز المراكب وسأترك التماثيل تغرق .. لان البشر الذين انقذتهم سيصنعون تماثيل اخرى ولكن التماثيل لن تصنع بشرا ان غرقوا .. ولذلك سآخذك في رحلة بحرية ونرمي انفسنا في اعماق المحيط .. واذا كنت لاتجيدين السباحة أو تصرين أنك تريدين ان تحملي معك التماثيل والايقونات الثقيلة .. فانك ستغرقين وتغرقينني معك وتغرقين كل القراء ..
ياصديقتي .. في أعقاب كل حرب ينهض الناس من بين الانقاض ومن أعماق الخنادق ينفضون الغبار .. ثم تتلفت عيونهم تبحث عن الناجين وعن الفائزين وعن الخاسرين الذين خسروا .. ونحن في الحرب السورية لن نكون استثناء .. حيث ينفض الناس غبار الحرب وينظرون حولهم فيرون الانقاض الهائلة .. ولكنهم يرون تناقضات الحرب الهائلة .. فأبطال الحرب يظهرون كخاسرين في موازين الغنائم والربح والخسارة .. ويتداول الناس أسئلة من مثل: هل ان الحرب قد أنصفت الفقراء ام ظلمتهم؟ أسئلة مصدرها قناعة ان الحرب هي وسيلة من وسائل فرض العدالة بالسيف واعادة التوازن بالمجتمع لأنها ثورة من نوع أخر أو ثورة تصل متأخرة .. رغم ان حربنا لم تكن من أجل اعادة توزيع الثروة والمجتمع بل كانت من أجل استعادة وطن تعرض للسرقة وهوية تعرضت للتشويه ..
وأنا على يقين ان كل الشهداء الوطنيين الذين التحقوا بالجبهات عن طيب خاطر ذهبوا للحرب ولم يكونوا ينتظرون غنائم الحرب ولا حوريات الجنة كما كان المقاتلون على الطرف الاخر يريدون الحوريات .. ولم يكن شهداؤنا ينتظرون المكافآت والحوافز أو سيارات الهمر او ان يكونوا وزراء وأثرياء .. بل كانوا قلقين على وطنهم ومستقبله ومصيره ومصير أبنائهم .. ولم يقاتل احد منهم من أجل ان يحصل على مكافأة وأجر ..
الحرب العسكرية أكلت من لحمنا ولم تأكل من أرواحنا .. ولكن الحرب الاخرى بدأت الآن وهي حرب تأكل الروح .. انها حرب الانتظار .. انتظار الفصل الاخير .. انتصار العدالة .. انتصار المجتمع على نفسه .. وانتصاره على الانانية التي تفجرت بفعل الفقر والازمات .. اننا نعيش زمنا أخر هو زمن اغتيال الروح باحياء أنانية الجسد الذي نجا من الموت ..
كان أحدنا لايحس بألم الحرب وكان اذا فرغت جعبته من الرصاص يقتلع قلبه ويرمي به عدوه .. او يجتث روحه ويرمي بها عدوه .. ولكن جعبتنا مليئة بالرصاص اليوم .. الا انه لم تعد لنا قلوب نرميها ولاأرواح .. فقد كانت آلام مابعد الحرب اقسى من الحرب وصار الناس يبيعون قلوبهم وأرواحهم الماسية بأثمان بخسة لانه لايوجد عدو يرمونه بها ..
شئنا ام ابينا فاننا نعيش مجتمع الحرب ومابعد الحرب .. ففي مجتمع مابعد الحرب يفتش الناس عن العدالة وعن الابطال ويفتشون عن الجبناء وعن الخونة .. وتصبح حساسيتهم أعلى وقدرتهم على الخروج من المثاليات أكبر .. ويعودون الى سابق عهدهم ..
تذكرني نتائج الحرب بدرس عميق من السيرة النبوية .. عن العدالة والحق والثروة والعقيدة .. ففي غزوة حنين واجه المسلمون لأول مرة مشكلة مابعد الحرب .. حتى مجتمع النبي وقف حائرا امامها .. والنبي نفسه أحس بخطورتها لدرجة انها في تقديري كانت بداية السقيفة وبداية التشقق في الاسلام التي منها ظهرت التشققات الكبيرة في دولته لاحقا .. السقيفة وآلامها بدأت في جدالات غزوة حنين .. حين ظهر أن غنائم الحرب ذهبت لمن لايستحقها .. وان من صنع النصر لم يقطف الحصاد ..
ولاشك اننا قرأنا جميعا عن غزوة حنين ولكننا قرأناها كمن يقرأ مخطوطا لميثولوجيا اغريقية .. حتى قصة ليلى والذئب فهمنا مغزاها ولم نفهم ماذا قالته لنا غزوة حنين عن النفس البشرية وأزمات النبي مع النفس البشرية التي كان يعالجها كطبيب نفسي ماهر .. وعن صراع الايديولوجيا والانتهازية .. وعن بذور الصراع في الاسلام في انطلاق أسئلة الاعتراض والاحتجاج التي عكست الصراع على الثروة والعدالة الذي نعيشه حتى اليوم ..
لمن لايريد ان يتذكر مفاصل الحكاية .. سنعيد تذكيره بها (وربما نجد ان الحرب على سورية هي غزوة حنين كونية) .. فتلك المعركة حدثت بعد فتح مكة وانضمام الكتلة القرشية للدعوة .. وهي مرحلة تشبه انتصاراتنا التي انعكست في تحرير العراق وكسر أسنان اسرائيل في لبنان .. وظننا يومها ان المعركة بدأت تحسم واننا لانغلب بعد اليوم من قلة في وطنيتنا .. كما ظن المسلمون في معركة حنين انهم لايغلبون بعد اليوم من قلة في عددهم بعد ان صار عددهم يفوق 12 الف مقاتل اثر انضمام قريش وجنودها وساداتها الى جيش النبي لمقاتلة جيش هوازن وحلفائها الذين قرروا اسقاط النبي ودولته الفتية بعد اسقاطه عاصمة العصيان مكة واستيلائه عليها ..
ولكن بمجرد ان بدأت معركة حنين هزم المسلمون وتناثروا وبدؤوا بالفرار وظهر الضعف في صفوف المسلمين فيما سارع المنافقون في مغادرة ارض المعركة (مثل فترة الانشقاقات الاولى في سورية التي أضعفت الروح المعنوية للناس) .. ولاندري ان كان ذلك الفرار في حنين بسبب استسهال الهروب لأن المرتزقة كانوا كثيرين وهؤلاء هم من يبدأ الهروب .. ولكن النبي كقائد فذ في الميدان اندفع للقتال والصمود لرفع معنويات جنوده الباقين .. وهو يقول: (انا النبي ولاكذب .. انا ابن عبد المطلب) .. فانضمت اليه قلة قليلة من المسلمين .. فتبعهم الباقون .. وتغير مجرى المعركة .. ثم لحقت الهزيمة بهوازن وفر جيشها من ميدان المعركة تاركاً وراءه عشرات الآلاف من الأبقار والأغنام والإبل والأموال والذهب والفضة .. ووجد المسلمون امامهم ثروات هائلة وذهبا وفضة متروكة عليهم اقتسامها ..
وعندما جاء وقت تقاسم الغنائم .. تقدم المؤلفة قلوبهم الى اول الصفوف لنيل الجوائز وهم الذين كانوا قد لاذوا بالفرار او وقفوا ينتظرون نهاية المعركة (كما اليوم) .. وجاء أبو سفيان الى النبي ليأخذ نصيبه من الغنائم فأعطاه النبي مائة أوقية من الذهب ومثلها من الفضة وطلب ابو سفيان لأبنائه فأعطاه النبي .. وجاء صفوان بن أميه – وكان لايزال كافرا – فأعطاه النبي مائة أوقية من الذهب ومثلها من الفضة ومائة ناقة .. فقال صفوان من بعد هذا السخاء النبوي: ما زال محمد يعطيني حتى أحببته ..
وكان نصيب النبي من الغنائم إبل ما بين الجبلين… فنظر أحد الأعراب إلى نصيب النبي بذهول .. فقال له النبي: “أتعجبك؟”، قال: “نعم”، قال: “هي لك.” فذهب إليها ثم أخذ الإبل يسوقها إلى قومه ويقول: يا قوم أسلموا لقد جئتكم من عند خير الناس .. إن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر أبداً ..
ولكن الانصار المخلصين الذين قاتلوا مع النبي في كل معاركه ونصروه أحسوا بالغبن والظلم وهم يرون ان المنافقين والانتهازيين وكفار الامس واليوم نالوا نصيب الاسد في القسمة .. فقال الأنصار وهم يعبرون عن المرارة وخيبة الامل: لقد وجد محمد أهله في مكة !! .. (أي انه انحاز الى اهله وعشيرته) .. فبلغ هذا الكلام مسامع النبي من سعد بن عبادة سيد الأنصار .. وفهم النبي بعبقريته ان سعدا ينقل عدم رضاه أيضا ورضى القوم عن نتيجة الحرب وهم الانصار الذين نصروا الرسول لسنوات .. الا ان نصيبهم من الثروات كان ضئيلا جدا بالقياس لما حصل عليه الذين دخلوا حديثا في الاسلام وهربوا في اول نزال واختبؤوا وكانوا الانتهازيين والوصوليين والفاسدين (بلغة عصرنا) ..
فقال له النبي: “وما قولك يا سعد ؟ فقال يا رسول الله: “إنما أنا امرؤ من قومي” .. اي ان سعدا يوافق بلباقة على انتقاد السياسة النبوية ونتيجة الحرب وان ينال الانتهازيون الغنائم الكثيرة أما من قاتل فقد ناله الشيء اليسير .. فقال النبي: أجمع الناس ياسعد .. فجمع النبي الأنصار وحدهم دون غيرهم .. وقال لهم: لقد بلغتني عنكم مقالة أنكم وجدتم عليّ أني قد وجدت أهلي ..
وأدار النبي الحوار بعبقرية وقال لهم : ألم آتكم ضُلاَّلا فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟ .. ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟
قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟؟ .. لله ولرسوله المن والفضل ..
قال: كان بامكانكم ان تردوا عليّ بالقول: أتيتنا ايها النبي مكذَّبا من قومك فصدقناك .. ومخذولا منهم فنصرناك.. وطريدًا فآويناك .. وعائلا فآسيناك ..
ثم أضاف: أوجدتم عليَّ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفتُ بها قومًا ليسلموا .. ووكلتكم إلى إسلامكم؟؟
ثم أضاف: ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ولولا الهجرة، لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وواديًا، وسلكتْ الأنصار شعبًا وواديًا لسلكتُ شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار والناس دثار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ..
فبكى القوم حتى أخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا، ثم انصرف رسول الله وتفرقوا ..
هذه الحادثة هي التي أسست للسقيفة وانقسام المسلمين فالانصار وجدوا انهم هم من يقاتل فيما المرتزقة والكسالى والتجار ينالون الجوائز .. ولذلك بعد وفاة النبي تسابق المهاجرون والانصار الى السقيفة لعدم تكرار ماحدث في حنين .. بحيث لايأخذ الخلافة ذلك الرهط من القوم الذي سيحرم المقاتلين الحقيقيين من ميزات السلطة والخلافة والغنائم .. وكان ماحدث من فتنة في حنين تفجر في جدالات السقيفة ..
اذا اردت ان اقارن هذه الحادثة بالحرب السورية فانني أقول ان مهمة القيادة السورية اليوم هامة جدا وجليلة ومضنية وصعبة .. وهي ان تعيد شعور الناس الى ماقبل الحرب .. وان تقتل النزعة الانانية والانتهازية لدى فريق من الناس الذين قفزوا الى السفينة الناجية بمجرد وصولها الى الميناء وكأنهم كانوا على متنها في العاصفة رغم ان كل البحارة على السفينة يعرفون ان هؤلاء المدعين كانوا ينتظرون تحطمها وهم على الميناء يراقبونها بمناظيرهم .. وعلى الدولة ان ترضي كل الفئات التي شاركت في الحرب .. كل بجهده .. وأهم ماتخطط له اليوم هو انها تدرك ان عملية انهاء الاحتلالين التركي والامريكي لايجب ان يؤثر على انعاش الفقراء واختراق الحصار .. وان المجتمع الذي لاينصف فيه الفقراء بل الأثرياء هو مجتمع يملك العدو فيه حصة لانه سيخترقه بسرعة ..
ان الحرب فرصة لايجب ان تفوت لأنها اعطت القيادة السورية نصرا ثمينا جدا وهو ان الوطنية روح عادت الى الناس بعد مرض الطائفية الذي انتشر واستشرى في المنطقة منذ لحظة سقوط بغداد .. ولكن النصر السوري يتم تسميمه بقانون قيصر والحصار النفطي والغذائي .. وهذا ادى الى تفاقم الأزمات .. وهنا برز التفاوت بين الطبقات .. وبين من حارب وصمد وبين من نام تحت الشراشف ..
ولكن كونوا على يقين ان القيادة السورية واعية لهذا التحول وواعية لانزعاج الناس كما وعى النبي يوما وأحس بانزعاج الناس في مابعد غزوة حنين .. والتغيرات التي ستظهر قريبا في المنطقة ستعكس وعي القيادة السورية انها لن تفرط بالنصر ولن تسمح بتسميمه بافقار الناس ومكافأة الانتهازيين والمؤلفة قلوبهم ..
نحن راهنا على ان الوطن هو الخيار الصحيح الوطني .. ولذلك خضنا الحرب مع الاسد وتحت رايته .. وهو يدرك ان الخصم يريد ان يحول المجتمع الان الى مجتمع مابعد الحرب حيث يتم التركيز على تناقضات الحرب التي تزهر في كل المجتمعات بعد الحروب القاسية والطويلة .. فالمجتمع الالماني بعد الحرب العالمية الاولى والثانية كان مجتمعا فاقدا لكل توازنه ولكل ثرواته .. ولكنه لم يستغرق في اطلاق التساؤلات عن الخلل الطبقي الذي تسببت به الحرب .. بل اعاد انتاج الثروة وتوازن الطبقات وفي سنوات قليلة حدثت المعجزة الالمانية ..
دعينا نترك التماثيل الرخامية والذهب والاسئلة الايقونية رغم جمالها .. الناس هم الذهب وهم الرخام الذي لايقدر بثمن .. في بلد يحتاج للجميع .. وكما انتصرنا في الحرب على الكون .. سننتصر على مابعد الحرب من تناقضات…