أتمنى لوصرتُ وحشاً
محمود بري | كاتب وباحث لبناني
على المواطن أن يغادر البلد موقتاً كي يلتقط صورة بانورامية له من الخارج. هكذا يستعيد أولاً حبّه، ثم ينجح في تفكيك وحشية هذه المجموعة التي حكّمتها بنا الحرب الأهلية، وآليات الخداع وتسييل الحقيقة التي تعتمدها لترسم الفضاء التخيلي لبلد بالكاد يتشبث بمؤشر بقاء هامشي، وهو يتحرك من المستقبل (الذي كان) إلى الماضي (الذي هو اليوم)… كحالة شاذة ليس لها مثيل في عالم الإنس والجان.
الآن لم يعد النكران مُجدياً. علينا أن نعترف أننا وُلِدنا في بلد مُعاب يتجه إلزاميا نحو انهيارٍ محتوم. هذه حقيقةٌ لم تعد تخفى على أحد، ولا يُعالجها التزامنا الأرعن بحلقات مبدأ التكذيب بسبب عدم التأكد.
إن فتح آفاق عقلنا على أوسع مدى، ولو بسُبلٍ تنطوي على أكبر قدرٍ من التكهن، سيكون أهون من الاكتفاء بما لدينا اليوم والآن. إنهم يحاربوننا من موقعهم كـ “دولة” على الرغم من أنهم مغتصبو سلطة هذه الدولة المتوهمة ومتنكرين بازياء الحُكام. ومن هنا يعتمدون أحطّ مبادئ الاستخدامات غير العادلة للقوة. وتكون النتيجة دائماً أنهم وفي كل يوم، يُقيمون لهم دولاً عديدة زائفة داخل دولتنا غير القائمة.
حُكّامنا ليسوا أسوياء، ولا نحن. لكنهم ليسوا مجانين إلا بقدر ما كان نيرون مجنوناً عندما رغب في الاستمتاع بحرق روما. ولمن يتساءل مُحتاراً وقد أخذه تاريخ الرومان، فإن سلوك حكامنا ومثله سلوك نيرون، ليسا جنوناً بالمرة بل مجرّد استمتاع بفقئ عيون أطفال. وهذا إجرام واعٍ وليس جنوناً عفوياً. وقبل أن تأخذ في مجادلتي كما يفعل اللبنانيون، حبّذا لو تتذكر يا صديقي ما قرأناه في “الموند” وغيرها (وليس في الصحافة المحلية “الموتورة”) عن سلوكية (Behaviorism) مسلحين يمينيين متعصبين (والتعبير ترجمة حرفية لما ذكرته الصحيفة) في شرق بيروت حين هاجموا تجمعات الغرباءُ عليهم من فقراء رُقع البؤس، وكيف كانوا يتفنّنون تفظيعاً بالقتل والفقأ والسحل… بما يتطابق بالتمام والكمال مع ما ارتكبه مسلحون يساريون متعصبون من الجهة الأخرى، حين غزوا مدناً أو تجمعات لفقراء في رُقع بؤس أخرى في مناطق محسوبة على غرب بيروت أو بعيداً عنها جنوباً على كتف الساحل.
هؤلاء، من الجانبين، هم حُكّامنا اليوم. هم أنفسهم. لا تُصدّق عداواتهم المُعلنة، فهي مثل شعاراتهم الصائتة، “عدّة شغل”. واعلم (يا رضا) أن من جعل من فلان مثابة الرجل القوي والنجم والسيد المُهاب والزعيم الذي يأمر فيُطاعٌ في “الشرقية”، ليس هو الإمبريالية ولا مال آبار الدبق الأسود ولا الكفاءة السياسية أو القتالية… كل هذا لا دخل له. ما جعل فلان زعيماً في منطقته هو القصف المعادي من المنطقة المقابلة: ينهال القصف، فيهبّ هو ومسلّحوه إلى الردّ على القصف بالقصف. وكلّما اشتدّت وتيرة القصف من القاطع الآخر، تشتد قوة الزعيم في المنطقة المقصوفة ويزداد حوله الأنصار والمُريدون. هذا ينطبق على قيادات المسلحين في الشرقية كما في الغربية، سواء بسواء. وبالتالي فمن جعل هؤلاء وأولئك زعماء، كُلٌ في المنطقة التي يعيش فيها، هم المُرتكبون أنفسهم، بتقاصفهم. بموجب وبفعل القنابل والصواريخ العشوائية (من ينسى!) التي تمطرها الفضاءات الضيّقة بين البنايات، هنا وهناك، يخسر المواطنون أملاكهم وأعزاءهم وأمانهم وأرواحهم، بينما المتزعمون القاصفون، من هناك وهنا، يزداد سلطانهم والتحلُّق حولهم على اعتبار أنهم حُماة الديار، فيتسيّدون ويرتفعون على الدم… عندما “انتهت الحرب”ــ التي لم تنتهِ، جلسوا للتحاور ثم لتقاسم السلطان والكراسي والمناصب. أنظر جيداً يا صديقي، هم أنفسهم تقريباً نجوم الحرب الذين باتوا يتحكّمون اليوم بكل أحد وكل هنا شيء. هم ذين اينسجون القوانين ويحكمون القضاء ويتحكمون بالمال والأمن والإدارة. هم القوة والسلطان الذي لا تنزل كلمته الأرض. هم يُوظفون الموظفين، وهم من يتلاعب بالدولار وبالأسعار. هم يدمرون معامل الإنتاج ليبعونا مما يودون بيعنا إياه. هم السلطة ولا دولة إلا هم. حكامنا اليوم هم أنفسهم سادة العراكات السلاحية الدموية الضارية بين بعضهم البعض. هم المتذابحون المتنافسون، ليس على خدمة الناس أو الوطن أو الأمة أو الشعب أو الدّين أو الطائفة أو المنطقة أو العائلة، بل هم الذين يتنافسون على تدنيس البشر، تدنيس المواطن، تدنيسنا، جسدياً ونفسياً وعقلياً بحيث نصير ما أصبحنا عليه اليوم، قطعاناً بائسة لا حول لها ولا إرادة، نهمهم باسم الطائفة وباسم الزعيم الذي… ننشر حريمه في سيارات السرفيس وفي صالونات الحلاقة وربما في المقاهي، ثم، يا لحقارة الإنسان، نُعيد انتخابه مجدداً كي نفقأ حصرمة في عين العدو الغاشم واليمين المتأمرك واليسار المتمسلم.
هذا هم وهذا نحن. نكمل بعضنا. يمكننا أن ننتقد النفايات البلاستيكية في البر اولبحر والنهر، نرفع صوتنا كما نشاء، لكننا نعلم أن هذه الفايات ستدوم بعدنا قرونًا، بينما لا نستطيع تصور كيف سيعيش أحفادنا في هذا البلد المُنهك وقد أصابه البلى من جرَّاء سوء بشره. ثم، وعلى الرغم من كل ذلك، لا نثور… لا نعترض… لا نئنّ… لا نقول شيئاً أبداً، بل نمضي، كما فعلنا بالأمس، بخطوات مترنحة إلى كارثة تالية في مدينة البَخَر المُقرف، ولا نفكّر حتى بان نتجرّأ على الإطاحة بالسرديات الغادرة التي أكلت أعمارنا وأفكارنا.
لا أدري من الذي قال مرة إن من يقاتل الوحوش، عليه أن يحذر كي لا يتحوّل إلى واحد منهم.
أنا لا أحبّ أن أكون حذراً. أتمنى لو صرت وحشاً، ولو في حالة سهوٍ مُتعمد، بدلاً من أن أتلهّى بوهم الوعي والمعرفة، مُعتمداً على تراب الجسد.