بالنسبة لبقية العالم، قد تبدو المملكة العربية السعودية كمملكة من القرون الوسطى حيث لا تزال المرأة تكافح من أجل الحقوق الأساسية، وحيث يدير رجال الدين الملتحين المحاكم وحيث يتم قطع رؤوس المدانين بشكل روتيني بالسيف في الأماكن العامة. لكن النظام الملكي السعودي – مثل جيرانه في دبي وأبو ظبي – لطالما اعتز بأحلام القفز نحو مستقبل عالي التقنية.
وضمن تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز أشارت فيه إلى آخر ملوك النظام الملكي السعودي، في وضعه خططا لإنشاء ست مدن جديدة في الصحراء، والتي وصفت جميعها بأنها خطوات تحويلية نحو عالم لا يعتمد بشكل كامل على إنتاج وواردات النفط.
والآن، أعلن السعوديون عن أفكار خيالية تجعل كل جهودهم السابقة تبدو عقلانية، حيث أصدر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة فيلما قصيرا بداية هذا الشهر يوضح فيه خططه للمستقبل، وهي خطة تتعلق بخلق مدينة ما بعد الحداثة، والتي يتم بناؤها على الساحل الشمالي الغربي للمملكة، التي ستكون قطاعا حضريا ضيقا بطول 106 ميلا بلا طرق ولا سيارات ولا تلوث.
وذكرت الصحيفة أن محمد بن سلمان، يخطط لضخ 500 مليار دولار في هذا المشروع والمشاريع ذات الصلة، وهو في الحقيقة مبلغ كبير حتى بالمعايير السعودية كما ويوصف هذا المشروع بأنه “ثورة حضارية” سيسكنها مليون شخص من جميع أنحاء العالم فلماذا قد يرغب أي شخص في الانتقال إلى هناك، ولماذا يجب أن تتشكل المدينة على شكل خط طويل؟
والجدير بالذكر أنه عند مشاهدة الفيديو الترويجي لولي العهد، يمكنك أن تنغمس في شكل سعودي مميز من الغطرسة الممزوجة بين الانتصار الديني والعظمة الملكية، حيث يبدأ الفيلم بمونتاج سريع الحركة لأعظم الإنجازات العلمية والتقنية في القرن العشرين، بما في ذلك صورة متناقضة للملك المؤسس للمملكة العربية السعودية، كما لو أنه كان مبتكرا على طراز ستيف جوبز و ليس ملكا للصحراء وراكبا للجمال.
الفيديو الترويجي لمدينة نيوم السعودية
كما وتومض التواريخ على الشاشة بخط عتيق تزامنا مع عرض صور أول بث إذاعي تجاري لعام 1920، وأول تلفزيونات ملونة عام 1953 وأول عملية زرع كلى ناجحة عام 1954 وأول رجل على سطح القمر عام 1969، ثم ولادة الإنترنت، فبعد تجاوز أمجاد يوتيوب والواقع الافتراضي، تصبح الشاشة فارغة و تظهر الكلمات التالية باللون الأبيض على خلفية سوداء، “ما التالي ؟ “.
بعد ذلك، يخرج محمد بن سلمان على خشبة المسرح مرتديا ثوبه الأبيض الطويل، ويلقي خطابا موجزا تحفيزيا على غرار برنامج اللقاءات والخطب التحفيزية التلفزيوني الشهير TED، بينما نرى خلفه نموذجا طبوغرافيا لما يشبه قشرة القمر السوداء ثم يخترقه تيار رقيق من النار الخضراء المتوهجة ، و هذا الخط الشعاعي الأخضر يمثل مشروع مدينته الجديدة.
كما ويصف محمد بن سلمان هذا العالم الجديد الشجاع بأن القيام بأي رحلة لن يستغرق أكثر من 20 دقيقة، وأن انبعاثات الكربون ستكون صفر !، الأمر الذي يجعلك تشعر أن وقاحته ليست أقل من شيء ميتافيزيقي، ويبدو أنه يعتقد أن الطبيعة نفسها تحت إمرته.
تكاليف مشروع مدينة نيوم السعودية
وفي الحقيقة، لا ينبغي أن يكون هذا مفاجئا للغاية، لأن محمد بن سلمان يروج لأفكار غريبة بنفس القدر منذ عام 2017 ، عندما قدم مدينة نيوم لأول مرة، وهو التطور المستقبلي الأوسع الذي يشكل مشروع الخط جزءا منه .
حيث تم وصف مدينة نيوم بشكل رسمي على أنها طريقة جديدة للحياة منذ الولادة حتى الموت، والتي يصل مدى التطور فيها إلى الطفرات الجينية لزيادة القوة البشرية و معدل الذكاء، واستمطار السحب لجلب المطر إلى الصحراء. كما ويتضمن المشروع تخطيطا جادا وواقعيا لتحلية المياه وتوفير الطاقة البديلة والزراعة الصحراوية، وذلك بحسب ما قاله علي الشهابي، عضو المجلس الاستشاري لمشروع مدينة نيوم. لكن المثير للاهتمام حقا هو أن تلك الأفكار قد طغت عليها الأحاديث الجامحة عن القطارات فائقة السرعة، والرجال الآليين الذين يعملون كخدم، والشواطئ ذات الرمال المتوهجة البراقة .
مدينة الصحراء السعودية نيوم
وتشير الصحيفة في تقريرها إلى أن هذه الغطرسة الكامنة وراء هذه المقترحات التي يغذيها طوابير من الرجال المؤيدين، بما في ذلك المستشارون الغربيين ذوي الرواتب الجيدة، ستكون مألوفة لأي شخص قضى وقتا في المملكة العربية السعودية.
ومع ذلك، ربما كنت تتوقع المزيد من الحذر من محمد بن سلمان، على الأقل في الوقت الحالي فهذا هو الرجل الذي اتهم بإصدار أوامر قتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي، الذي تم استدراجه إلى القنصلية السعودية في اسطنبول بتركيا عام 2018، ثم تم خنقه و تقطيع جثته بمنشار عظم من قبل فريق اغتيال أرسل من الرياض .
تجدر الإشارة إلى أن خاشقجي كان صحفيا شجاعا تجرأ على كتابة أعمدة انتقادية معتدلة في صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، وقد صدمت تفاصيل موته الوحشية العالم و جعلت محمد بن سلمان منبوذا، حيث قام باستنكار عملية الاغتيال و نفى ضلوعه فيه بأي شكل كان، في حين عارضت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية هذا الأمر .
مدينة نيوم السعودية الخيالية
وفي الحقيقة، إن التواضع والحذر ليسا أحد خصال جينات محمد بن سلمان، فهو دائما ما يواصل مضايقة منتقديه و سجنهم كما لو أن مقتل خاشقجي لم يحدث حتى كما أن غروره هذا قد سمح له بالتغلب على المؤسسة الدينية في المملكة العربية السعودية، ووضع حدا لترويج المملكة منذ فترة طويلة للعقيدة الإسلامية المتطرفة، حيث بدأ في تخفيف القيود الصارمة على الحياة الثقافية ، مما جعله يتمتع بشعبية كبيرة و خاصة بين الشباب السعودي .
كما وتجدر الإشارة إلى أن هذا الفيلم الترويجي الأخير والغريب لمحمد بن سلمان ليس مجرد انعكاس لطموحاته الملكية، حيث لاقى حبه للتكنولوجيا صدى كبير لدى العديد من الشباب السعودي، ولا يمكنك إلقاء اللوم عليهم في ذلك، فقد نشأت مدنهم الخاصة بين عشية و ضحاها بعد أن كانت مجرد بقع غامضة من الصحراء وقد راقب أجدادهم الأمر في رهبة بينما كانت المادة اللزجة السوداء “النفط” تتسرب من الرمال ببطء لتحول واحدة من أفقر دول العالم إلى واحدة من أغنى دول العالم بسرعة خيالية، فما الذي قد يمنعهم من عدم تصديق وامتلاك سيارات الأجرة الطائرة والأقمار الصناعية ؟
بالإضافة إلى ذلك، يلقي الجزء الأخير من الفيلم الترويجي بملاحظة مدهشة، وهي صور للطرق السريعة الحضرية المزدحمة والجسور التي تذكرنا بفيلم “Koyaanisqatsi” الذي عرض عام 1982، والذي قدم الحداثة على أنها خيانة لكوكب الأرض . فوفقا للفيلم الترويجي، سينقذ مشروع “الخط ” الجديد الخاص بمحمد بن سلمان البشرية من هذا الكابوس، وسيقضي على أساليب النقل التقليدية و التلوث ويحافظ على ما نسبته 95 % من الطبيعة كما هو داخل حدوده.
مشروع محمد بن سلمان في مدينة نيوم السعودية
لكن ما لا يقوله الأمير هو أن هناك بالفعل آلاف الأشخاص الذين يعيشون في وئام مع الطبيعة في نفس المنطقة التي يرغب بن سلمان في إقامة مشروعه الجديد فيها، وهم عبارة عن مجتمع قبلي موجود منذ قرون، والذي يتم استبدالهم الآن وسلب أراضيهم لصالح المشروع .
والجدير بالذكر أن أحد رجال القبائل المتضررين هؤلاء قد صنع بعض مقاطع الفيديو احتجاجا على عمليات الإخلاء، والتي كانت منافية تماما للفيلم الترويجي الذي أنتجه محمد بن سلمان بالطبع، لكن الرجل قتل بالرصاص نهاية العام الماضي في مواجهة مع قوات الأمن السعودية عندما كان يدافع عن بيته .
كما ويشار إلى أن بعض السعوديين قد ردوا على فيلم محمد بن سلمان بتعليقات حادة بعض الشيء حول الحاجة إلى تجديد البلدات والأحياء الموجودة في البلاد قبل رمي المليارات في مشروع خيالي آخر، حيث أنهم قالوا أنه يمكن لأي شخص قضى وقتا في المدن الحالية في المملكة العربية السعودية أن يتعاطف مع الرغبة في البدء من جديد، خاصة و أنها مليئة بالأتربة و قبيحة من الناحية الظاهرية، كما أن رجال الدين ضيقي الأفق يرأسون بيروقراطيات فاسدة تقاوم التغيير لكن المشهد السعودي مليء بالفعل بالمشاريع العملاقة الفاشلة أو المهجورة، وقد اقترح جمال خاشقجي تغيير هذه الأمور وقام بانتقادها في عمود كتب مع مؤلف مشارك بصحيفة الواشنطن بوست قبل مقتله ببضعة أشهر .
مشروع مدينة نيوم السعودية
بالعودة إلى الفيلم الترويجي، ينهي محمد بن سلمان خطابه، ويظهر صوت أنثوي دافئ يصف الحياة الجميلة في مشروع الخط، حيث ينحسر الواقع الحضري المرير وتعرض أمامنا صور أكثر سعادة تشمل قمم الجبال الضبابية والأمواج التي تضرب شواطئ الساحل البكر .
كما أن الكلمات الأخيرة للفيلم، التي يتم التحدث بها من قبل موكب متعدد الثقافات للوجوه التي تومض عبر الشاشة، هي كلام غير معقول إلى حد كبير، حيث تقول: “منزلنا جميعا، مرحبا بكم في الخط .
المصدر: نيويورك تايمز