آباء الحرب: كلّهم إسمٌ واحد

محمود بري | كاتب وباحث لبناني

يوم الأحد. نهار عُطلة الأسبوع في الرزمامة وعلى الطاولة، إنما ليس هنا. أمكنة العمر صارت أكثر مزاجية من المرضى. الأحد هنا يوم عُزلة تُعيد الجالس إلى أعماقه قسراً وتُلقي به وسط قبو الأحداث التي مضت. أي حُمقٍ هذا: الأحداث لا تمضي. يبقى طعمها جاثماً في مكان لا تهدمه مطارق التجاهل ولا تشطبه ممحاة الريح.

كيف استطاع ذلك اليوم الخميس أن يكون بكل هذه القساوة. كيف نجح ذلك “القاتل ــ الزعيم” أن يرمي بنا عن الحافة، من جديد…؟ لا أظن أن أحداً أحبه يوماً، وهو يُمعن في استخدام  جرائمه لإلغاء من يكرهونه… وكل ما لا يريده ــ كالإنتخابات مثلاً ــ ويتصرّف على أن له مِلء الحق في إعادة تفجير الحرب كي يبقى ويستمرّ.

الحرب!!! كم هو لئيم!

سبق لحروبه أن نهشت أعمارنا واعتقدنا أنها كانت أكثر من كافية، وها نحن نطلب الإستزادة، يا للعجب! ومن أجل من لا يحبه أحد. هل نريد ذلك حقاً أم أننا ضحايا “الزعماء ــ القَتَلَة”، هذه المرة أيضاً!

وحوش هذه الجنّة التي كانت، نهشوا كل ما كان هنا، الأمان والدِعة وهدأة البال. كانوا يكرهون مدينتي المُغوية كما يكرهون أمهاتهم. أرادوها أن تأتيهم كسيرة  تُداري حُطام جدرانها وتنزف خلسة بصمت. لم تفعل. فسعوا لتدميرها كي يمتلكوها.

تسألني مديني عن إسم المارق وهويته، فلا أجيبها، ليس لأنني لا أعرف بل لأنهم كلّهم إسم واحد.

منذ عقد… منذ عمر هبط علينا بقرقعة مدافعه، من جميع الجهات. كانت لغته الوحشية جديدة علينا. لم نفهمها ورحنا نموت على حين غرّة من دون أن ننتبه. داهمنا الحزن والأسى مثل ليل مُفاجئ… وما انفكّ يتواصل ويتجدد بين مقبرة وأخرى. جاء منهم من يُخبرنا ذات يوم أن الحرب انتهت، فصدّقناه كحمقى، وعُدنا نموت من أجله ونتداول إنجازاته المتّشحة بالويل  والسواد. امتلأت جدراننا…أجسادنا ثقوباً، ولم نفهم. بعضنا ظن أنه مات لفلسطين وبعضنا للمشاركة وبعضنا للعدل وبعضنا للحقوق وبعضنا للوطن. لكننا مُتنا حقيقة من أجله. مُتنا ليعيش. وها هو: قاتلٌ بألف رأس ورأس.

أخيراً.. حين انتبهنا من موتنا، كانت الحياة مدينة كبيرة من الندم، تتناثر في وجوهنا أكواماً من حجارة يائسة، تسيّل أوجاعها مطراً يغلّ في عتمة مصابيح الطرق المهجورة.

مدينتي صارت موحشة، كثيرة الثقوب. لا أحد فيها يمكنه النظر في عيون الآخرين. النفوس مليئة بالتراب والأسى، وخيط حمام زاجل ينقل بريد  الحزن والغضب والتساؤلات: ترى لماذا لا نكتفي من حروب نرتكبها في أجمل ما فينا، نرتكبها من أجل آخرين…! كيف أننا لا نملّ من جرائمنا الكبيرة؟

تتسع الجراح أكثر بقدر ما تستحيل الأجوبة. كل الذين حولي، الخارجين من عُلب الصمت اليوم، تلبسهم قمصان مدمّاة وكثيرٌ من الصدأ. أهرب من تساؤلاتهم فتستدير عائدة نحوي من باب يُفتح من الخارج. كيف يمكننا أن نقتل بلداً نما إلينا من كل تلك الجذور العميقة، ثم ننهمك بكتابة مزاعم حبّنا له، بحبر الدم والخراب؟

ربما هو الجنون، تلك التُفّاحة الزرقاء أو البرتقالة التي من حجارة…! من يهتم؟ كل معارفنا و”معلوماتنا” تُفضي إلى ظلام أصلي. ولا يبقى في البال سوى فجرٌ عنيدٌ يصرّ على أن يلمع في أوراق صفصافة تتمايل عشقاً في مكان ما، فجرٌ يبحث عن يوم غير مُلطّخ ليفتح عينيه قبل الشمس. وأنا وحيداً أمشي، وحولي أنتِ وكثيرون، في طريق خريفي النوافذ، يتمسك كلٌ منّا ببعضه الآخر.

رأيتُني من بعيد وعرفتُني. كنت أنا، أمشي سريعاً في مخاطر الطريق. مواطن شاخ قبل الأوان، يمضي متعكّزاً على موته الوشيك.

وتأتي المساءات فإذا هم على الشاشة، يواصلون أناشيدهم الوطنية السمجة، ولا يرتوون. الأوغاد أنفسهم دائماً.. يبقون أوغاداً بعد الموت.

كم أحبّ استخدام السلاح في الداخل.. في داخلي.

Exit mobile version