د.نازك بدير | كاتبة وباحثة لبنانية
إذا كانت للحروب العسكريّة بدايات معلَنة ونهايات محدّدة، فثمّة حروب سريّة تسبقها، وتوازيها، وقد لا تنتهي بعد توقّف إطلاق الذخائر. يمكن القول، إنّ الاستخبارات هي حجر زاوية في حسابات الحرب والسلم تعتمد عليها الدول، كما المنظّمات، في تحديد الأهداف، وتقييم المخاطر، والتنبؤ بأفعال العدوّ.
تعمد الجيوش والأجهزة الأمنيّة والفصائل والأحزاب إلى جمْع معلومات استخباراتيّة حول قواعد العدوّ السريّة، مطاراته، قادته، تحرّكاتهم، مخازن الأسلحة، أنواعها، خطوط الإمداد السريّة، أهداف شديدة الحساسية، ثغرات ممكن إصابتها في الهيكليّة النظاميّة. وقد تنجح الاستخبارات بتوقّع ساعة الصفر، ما يحبط مفاعيل الضربة، ويُسقِط عنصر المباغتة.
في أربعينيّات القرن العشرين، مع بدايات الحرب الباردة، تأسّس اتّحاد استخباراتي سرّي جمع الولايات المتّحدة وبريطانيا بهدف معرفة كيفيّة اختراق “الجواسيس الروس”. وفي أواخر الخمسينيّات، انضمّت إليهما كندا ونيوزيلندا وأستراليا، وبات يُعرف ب”العيون الخمس”. بقي هذا التحالف طيّ الكتمان حتّى شهر مارس من العام 1999. مع الوقت، تطوّرت إمكاناته، واستخدم برامج دقيقة في التجسّس، نظير شبكة إيكيلون لرصد الرسائل المشفّرة والأقمار الصناعيّة. لهذه الشبكة أجهزة مثبتة على كوابل نقل الإنترنت في قاع البحار، وأنظمة ترجمة فوريّة، وتحويل الأصوات إلى كتابة. أنشأ هذا التحالف قاعدة “أوريم” مقرّ الوحدة 8200، أبرز وحدات المخابرات العسكريّة الإسرائيليّة، لاعتراض المكالمات والتجسّس عليها في جميع أنحاء العالم. تضمّ 30 هوائيًّا بأحجام مختلفة، بالإضافة إلى صفّ كامل من الأطباق الفضائيّة والرادارات والأبراج. موقعها الاستراتيجي- غرب صحراء النقب شمال فلسطين المحتلّة- يتيح رصْد اتّصالات وإشارات على مدى واسع، إذ يغطّي نطاق عملها آسيا وأوروبا وإفريقيا، ما جعلها من أكبر قواعد التجسّس في العالم. قدّمت الوحدة 8200 تقريرًا قبل السابع من أكتوبر عن تدريبات تجريها حماس لاقتحام نموذج يحاكي الداخل المحتلّ، لكن القيادة الإسرائيليّة لم تأخذ الأمر على محمل الجدّ. استخفّ ضبّاط المخابرات بالمعلومات التي وصلتهم، وأسقطوا فرضيّة ذهاب فصائل المقاومة إلى الحرب. تمكّن الفلسطينيون فجر 7 أكتوبر من اختراق الجدار العازل، والوصول إلى “قاعدة أوريم” حيث أجهزوا على مَن فيها، وحملوا معهم ملفّات سريّة وأجهزة دقيقة. على الرغم من امتلاك العدوّ منظومات ترتكز إلى الذكاء الاصطناعي تحلّل الجهة المستهدَفة، وتزوّده باستقراءات مرتكزة إلى فرص التحقّق، وتقترح مواجهة محتملة، واعتماده منهجيّة” مسْح الأفق”(ترتكز على الاستقراء والتنبّؤ) بيد أنّ ذلك كلّه لم يمنع حصول عمليّة طوفان الأقصى. في هذا الإطار، أعلن موقع والاه العبري أنّ قائد الوحدة 8200 سيعلن عن تقاعده الأسبوع المقبل.
التطوّر الهائل الذي فرضته التكنولوجيا الرقميّة، وانتشار الإنترنت أتاح لمكاتب الاستخبارات المكوث في كلّ هاتف. ويذكر أنّ أكثر من 80% من المعلومات التي يحتاج إليها أيّ مسؤول، يحصل عليها من استخبارات المصادر المفتوحة OSINT( هي معلومات تؤخَذ من غوغل، ومواقع التواصل الاجتماعي، والمنافذ المفتوحة للكاميرات والأجهزة وكلّ ما هو متّصل بالإنترنت، وصور الأقمار الصناعيّة التجاريّة). بيد أنّ ثمّة جانب آخر للتطوّر الرقمي؛ لقد بات عمل الجواسيس أكثر تعقيدًا نظرًا إلى المراقبة الدقيقة التي تتيحها الأجهزة، وقدرتها على كشْف هويّاتهم الحقيقيّة أينما كانوا، فضلًا عن القدرة على خلْق معلومات كاذبة، وشنّ حرب نفسيّة.
أمام فيض المعلومات والبيانات التي تطرحها المصادر المفتوحةOSINT، فإنّ هذا الكمّ لا قيمة له إن لم يتوافر مَن يدمج القدرات الحسابيّة والإحصائيّة والتحليليّة، إضافة إلى إدراك المنظومات المحوسبة، وتفهُّم كيفيّة عمل خزّانات المعلومات وهندستها وإمكاناتها، والتفكير النقدي الإبداعي، واكتساب المهارات الجديدة. رجل الاستخبارات الحالي والمستقبلي يحتاج إلى مؤهلات خاصّة واسثنائيّة، مطالَب بالعمل مع شبكة من المشاكل المعقّدة، تحصيل قدرات غير تقليديّة تخوّله تحليل المعلومات بدقّة والقدرة على دمْج معطيات استخباراتيّة متعدّدة، واستنتاج مكوّن استخباري عميق الأبعاد، وتحديد ساعة الصفر.
ممّا تقدّم، تتبيّن صعوبة حلول الذكاء الاصطناعي في السنوات القادمة مكان رجل الاستخبارات الذي يعمل في ظروف معقّدة وعلاقات متشابكة بين السياسة والاستراتيجية والاقتصاد والمجتمع، ويوظّف، في الآن نفسه، ذكاءه العاطفي والاجتماعي في حلّ مشكلاته، بينما يبقى الذكاء الاصطناعي قاصرًا عن القدرات البشريّة. هذا ما يؤكّده أوين سيرس Owen Sirrs الأستاذ المساعد للدراسات الأمنيّة في جامعة مونتانا.
حتّى اليوم، لم تنجح الاستخبارات البشريّة، معزّزة بمصادر الاستخبارات المفتوحة OSINT في التنبّؤ بضربات قاتلة في العديد من العواصم العربيّة والعالميّة. وتاليًا، لم تجنّب وقوع الضحايا من المدنيّين. يبدو أنّ الحروب تسْتَبِق توقّعات الاستخبارات المفتوحة والسريّة. على أمل أن تكفّر الاستخبارات عن آثامها حين ستحذّر العالم من وقوع حرب عالميّة ثالثة!