مقالات مختارة

الأزمة في لبنان.. إعادة تكوين المشهد السياسي لفهم الأسباب .

حسن عماشا | كاتب وباحث لبناني .

إنّ إعادة تكوين المشهد السياسيّ في الكيان اللبناني في حقيقته الواقعية هي المدخل لفهم طبيعة الأزمة. لم تتوقف الحرب الأهلية بفعل نضج القوى المتصارعة فيها وتوصّلها إلى تسوية “الطائف”. جاء ذلك في سياق تحولات كبيرة دولية وإقليمية، أهمها سقوط الاتحاد السوفياتي وبروز القطب الدولي الواحد ممثلاً بالولايات المتحدة الأميركيّة.

وكان مشروع التسوية انطلق من مدريد، لتلتحق به كلّ الكيانات العربية، أسوة بما كانت مصر قد قامت به من خلال اتفاقيات “كامب ديفيد”. وفي هذا السياق، كان لا بدَّ من وقف الحروب الصغيرة، وبشكل أساسي في الكيان اللبناني، وذلك لسببين رئيسيين، الأول هو وجود بؤرة استنزاف في جنوبه وعلى الحدود تشكل تهديداً للكيان الصهيوني، والآخر هو تطور الصراع بين القوى اللبنانية، بحيث كان قائماً داخل كل منطقة على حدة. وبعد أن كان الصراع بين المناطق، تحوَّل إلى صراع داخلها، علماً أنَّ لكل منطقة روابطها الإقليمية والدولية التي تشكّل قاعدة نفوذ لها.

لأجل ذلك، كان لا بدَّ من إعادة ضبط ساحة اللبنانية من دون المساس بتوازناتها الداخلية والطائفية على وجه الخصوص، فكان “اتفاق الطائف” برعاية السعودية بشكل أساسي، ودعم أميركيّ – فرنسيّ، وفُوِّضت سوريا بفرض تنفيذ الاتفاق، إذ إنَّ لبنان كان يشهد عجزاً كاملاً عن إيجاد قوة ضامنة لتنفيذه. وسبق أن تم إفشال كل محاولات وقف الحرب سابقاً، من جنيف ولوزان إلى “الاتفاق الثلاثي” الذي كان برعاية سوريةٍ.

الميليشيات في لبنان حلّت نفسها طوعاً. وتمّت بعدها، وبرعاية سوريا، إعادة توحيد الجيش اللبناني وبنائه، ومن ثم انتظام الحياة السياسية، بما يعكس التفاهمات القائمة بين سوريا والسعودية وفرنسا، بقبول أميركي.

هنا، برز خطان متوازيان: خط تصاعد المقاومة وتطورها في وجه الاحتلال الصهيوني، وخط آخر كان رافعته البطريرك صفير، الرافض ضمناً “الطائف” تحت عنوان التفرد السوري بالحلّ. وتحت عباءته، كانت حركة جعجع و”القوات” الهادفة إلى الانقلاب على “الطائف”، عبر افتعال أحداث يقول من خلالها إنَّ “أمن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار”.

استمرت سوريا في تفكيك المعوقات في سبيل فرض تنفيذ الاتفاق بخطوطه العامة، محافظة على الشراكة مع كل من السعودية وفرنسا، من أجل إعادة تكوين السلطة في لبنان، وساهمت في كسر خطوط التماس، وفتحت كل المناطق اللبنانية على بعضها البعض.

وفي هذا المسار، تطوَّرت المقاومة بشكل نوعي، وكسرت أحد أهم خطوط التماس في الجنوب مع ما كان يُسمى بـ”الشريط الحدودي”، الذي كان محمياً إلى حدّ ما من “القوات الدولية” (UN)، وكان متعايشاً مع واقع الاحتلال، رغم الاشتباكات التي كانت تحصل من حين إلى آخر على خطّ امتداده، إلى أن أخذت “المقاومة الإسلامية” تهاجم مواقع الاحتلال وعملائه، فتقتل بعضهم وتأسرهم.

وهنا، لا بدَّ من الإشارة إلى ارتفاع منسوب المواجهة مع الاحتلال، والذي بدأ عملياً منذ العام 1990، وكانت بعض القوى، بحسب وجودها في قرى الجنوب، تساهم في التصدي للعدوان في حالات المواجهات الكبرى، كما حصل في العام 1993 في كفرا وياطر، أو في العام 1996 في كل مدن الجنوب وقراها.

جاءت الحريرية السياسية تحت عنوان “إعادة الإعمار”، وكانت، برمزها الأول رفيق الحريري، تشكل تجسيداً للحضور والشراكة السعودية والفرنسية في صياغة الحياة السياسية اللبنانية. وكان الحريري بشخصه وتوجهاته جزءاً من المشروع الرسمي العربي والأوروبي الهادف إلى تسوية الصراع مع الكيان الصهيوني، كما كان الوارث السياسي لنفوذ منظمة التحرير الفلسطينية، ليس في البيئة السنية فحسب، بل إنه استحوذ أيضاً على تشكيلات سياسية وثقافية كان ترتبط بأبو عمار، وشكَّلت قاعدته الشعبية الأساسية، فضلاً عمّن التحق أو أُلحق به من شخصيات ترتبط بعلاقات مع كل من فرنسا وأميركا. هذا الواقع جعل الكتل السياسية المسيحية المرتبطة تاريخياً بالغرب في حالة عزلة وضعف، فعمل الحريري على احتوائها من خلال تقاربه من البطريرك صفير.

ومع تعثر “عملية التسوية” وتفرّد كلّ من الأردن ومنظمة التحرير بالتوصل إلى اتفاقيات منفردة مع “إسرائيل”، كانت بداية الافتراق بين سوريا من جهة، والسعودية، ومن خلفها فرنسا وأميركا، من جهة أخرى، ولكن كان للحريري نفوذ كبير في لبنان، مبني على تقاطع المصالح.

في المقابل، كانت العلاقة بين سوريا و”حزب الله” تتعزز. وقد أثبت الأخير قدرات عالية في مواجهة الاحتلال الصهيوني، ووفَّرت له سوريا الحصانة في خلفيته. أما على صعيد إعادة الإعمار، فقد أطلقت يد الحريري في إدارته الملف الاقتصادي والإنمائي، تجنباً لأي تصادم تعتبره السعودية أو فرنسا تقويضاً لنفوذهما في لبنان.

وسواء كان الحريري يتعمّد استنزاف مدّخرات لبنان الشّحيحة أصلاً أو لم يكن يقصد ذلك، فلا شكّ في أنه كان يراهن على اكتمال “عملية التسوية”، ليحصل لبنان بموجبها على منح تعوّضه عن كلفة الإعمار وسداد الدين العام، مقابل ما سوف يساهم فيه من مشاريع تصفية القضية الفلسطينية وتوطين اللاجئين الفلسطينيين.

وكان قد باشر بمشروع إعمار في “القريعة” لهذه الغاية، ولكن قامت سوريا بتعطيله، إلا أنه لم يكن يعنيه، بالرهان على التسوية، أن تتحقّق، بل كان من خلال التماهي مع المخطط المرسوم يحقق على المستوى الشخصي أرباحاً هائلة بلغت أكثر من 15 مليار دولار، إذ إنَّ ثروته لم تكن قبل مجيئه إلى الحكم في لبنان تتجاوز ملياري دولار، والتي الملتبسة أصلاً في حقيقتها، إذا ما كانت له فعلاً أو للملك فهد، وكانت أعماله واستثماراته متعثّرة في السعودية نفسها، وفي أوروبا وأفريقيا، لكن تلك الثروة بلغت 17 مليار دولار عند اغتياله. إذاً، كان يحقّق مكاسب كبيرة، ويستند إلى دعامة توفرها له القوى السياسية، إما من خلال رشوتها، وإما من خلال التماهي معه في التبعية.

لم يكن تقارب الحريري مع “حزب الله” بعد العام 1996 إلا بسبب إدراكه أنَّ القوى الدولية والعربية المعنيَّة توصلت إلى قناعة بالعجز عن مواجهة المقاومة أو احتوائها بعد الصمود الأسطوري في مواجهة العدوان الصهيوني في حرب نيسان/أبريل 1996، والتي تم حشد أكبر تجمع دولي وعربي من أجلها، ومُهّد لها في قمة “شرم الشيخ”.

هنا، شرع الحريري في محاولة اختراق البيئة الحاضنة للمقاومة، عبر تشكّل قوة شيعية ثالثة، وكان يدرك أن أي محاولة لإحداث الشقاق والفتنة بين حركة “أمل” و”حزب الله” محكومة بالفشل، لأنَّ ضمانة الوئام بين الثنائي قائمة، وكان كما غيره من القوى اللبنانية مقتنعاً بأنَّ موضوع “حزب الله” يقع ضمن المسائل الإقليمية، ويتجاوز الحالة الداخلية اللبنانية.

حاول الحريري أن يظهر دائماً حالة من التماهي مع سوريا، وكان فيها مراكز قوى مثيلة له في خياراته، إلا أنَّ الجميع كان ينتظر تحوّلات إقليمية تفرضها الولايات المتحدة على المنطقة، إلى أن كان الانتصار في العام 2000، وإجبار الكيان الصهيوني على الانسحاب الذليل من الجنوب، وتعاظم قوة المقاومة، وبموازاتها الصمود السوري في وجه الضغوط الأميركية الغربية والعربية، وتمسك سوريا بالمبادئ التي قامت عليها التسوية، رغم أنها بقيت وحدها، ومعها لبنان المقاومة والرسمي، في ظل رئاسة العماد إميل لحود للجمهورية تحت عنوان “وحدة المسار والمصير”، وعدم التنازل عن الحقوق في الأرض وعودة اللاجئين، ما شكّل إحراجاً بالنسبة إلى منظمة التحرير نفسها.

من هنا، كان لا بدَّ من محاصرة سوريا، وتحديداً من خلال الخاصرة اللبنانية، وكان لا بدَّ من قلب المعادلة اللبنانية الداخلية المرافقة، مع تشديد الضغوط عليها من كلّ الجهات. وبما أنَّ الحريري لا يسير بالإيقاع الذي يفترض أن يسير فيه، ولم يكن لدى الغرب وأميركا سواه ليركن إليه في تصدر المواجهة مع سوريا، كان الخيار في تصفيته واتهام سوريا واستثمار دمه لحشد قوى شعبية خلف مشروع إخراج سوريا من لبنان، كمقدمة لمحاصرتها وضربها من الداخل، معتقدين أن ذلك يؤدي إلى عزل المقاومة، ما يسهّل ضربها وتصفيتها.

كذلك كان العدوان في تموز/آب 2006، والمحاولات اليائسة لإحراز تقدم ميداني، في ظل حكومة لبنانية سعت بكل ما تملك إلى أن تتلقّفه وتستثمره لتصفية المقاومة، إلا أنَّ الصمود والانتصار أسقطا العدوان للمرة الثانية، وكرّسا استحالة القضاء على المقاومة، وفرضا معادلة ردع لا أمل للكيان الصهيوني في كسرها، بل أصبحت قوة تهديد وجودي للكيان الصهيوني، وتعاظم دورها، ليس في لبنان فحسب، بل أصبحت أيضاً قوة لها تأثيرها وأهلها على مستوى المنطقة العربية والإسلامية، بحيث باتت تشكل ركناً أساسياً من محور المقاومة الممتد من طهران إلى بغداد واليمن، وصولاً إلى سوريا ولبنان.

في المقابل، لم تعد المواجهة تقتصر على حدود جغرافية كانت مرسومة منذ “سايكس بيكو”، وأمست أدوات المواجهة تتعدد بحسب طبيعة كل ساحة من ساحات الحرب العدوانية الأميركية، منها ما يرتكز على الإرهاب، ومنها ما يعتمد على الجيوش، مثل الحرب على اليمن، ومنها ما يُسمى بحراك “المجتمع المدني”.

وفي ظل عقوبات تطال كل الذين لا يستجيبون للمطالب الأميركية، بدءاً من الدول، مروراً بالمنظمات، وصولاً إلى الأفراد، بحيث بات يمكن رسم خط فاصل بين من يواجه أميركا ويرفض إملاءاتها باختلاف المستويات، ومن يخدمها وينفّذ روزنامتها من خلال ما تعلنه وزارة خارجيتها في لائحة العقوبات.

من السذاجة وضيق الأفق اعتبار الحراك المسمّى بـ”الربيع العربي” مجرد حركة عفوية ناتجة من ضيق سبل العيش، مهما بدت شرارتها مشروعة، لأنَّ المنخرطين في هذا الحراك لم يلحظوا أياً من الأسباب التي تعدّ من مفاعيل الحصار والعقوبات والنهب المنظم لمواردنا، وكانوا يحصرون أسباب الأزمة بعناوين مضلّلة، مثل “الفساد” (وهو موجود)، أو جهل الحكام وسوء إدارتهم، أو الفصل المصطنع بين الداخل والخارج.

تعيش منطقتنا والعالم حقبة تاريخية جديدة معاكسة تماماً للحقبة التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي وسيطرة أميركا على العالم، ودخلنا مرحلة تكشّفت فيها حدود القوة الأميركية في العالم. وفي منطقتنا على وجه الخصوص، نجحت قوة في مواجهة أميركا ورفض إملاءاتها، وفي طليعتها إيران، وأخذت الصين دوراً أكبر في التصدي لأميركا، ومعها روسيا، كما تكشف عجز أميركا عن مواجهة تحدي إرادتها في أكثر من مكان في هذا العالم، من أميركا اللاتينية إلى كوريا وإيران، إلى سوريا ومحور المقاومة، الَّذي انتقل من حالة الدفاع إلى الهجوم والمبادرة.

وإذا كان في يد الولايات المتحدة أوراق تأثير من خلال العقوبات والحصار، فإنها أمست تطال أصدقاءها وأدواتها أكثر مما تمثل تأثيراً يؤدي إلى تغيير خيارات محور المقاومة. وإذا كانت شعوبنا تعاني مفاعيل الحصار والعقوبات، وهو واقع قائم، فإن أي حراك سياسي اجتماعي لا بد له من أن يتوجه في إيجاد الحلول بأزماته عبر السبل المتاحة، من خلال دول المحور المقاوم والأصدقاء الدوليين، مثل الصين وروسيا، لحلول مستدامة، بعيداً عن الشروط الأميركية المذلّة وغير المضمونة، بفعل ما تعانيه أميركا نفسها من أزمات، وكذلك فرنسا وأوروبا، فضلاً عما تتخبَّط فيه وتخضع له دول الخليج العربي من أزمات وابتزاز لنهب مواردها من قبل الأميركي، ما يجعلهم عاجزين، ولو أرادوا أن يقدموا أي شيء لأحد، وخصوصاً في الدول التي يمتلك محور المقاومة فيها نفوذاً فاعلاً ومؤثراً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى