كتاب الموقع

لقاءات حميميم وحقيقة الموقف السوري

محاولات جادة وفعلية بذلتها للتوصل لطريقةٍ مثلى في كيفية التعاطي مع التفاهة، ولكن في كل مرةٍ أتوصل لابتكارٍ ما، تعود التفاهة للتفوق على نفسها بالحفر لقاعٍ أكثر انسحاقاً، والتجسيد الحيّ مؤخراً لهذا القاع هو ما تمّ تداوله عن لقاء سوري”إسرائيلي” في قاعدة حميميم برعايةٍ روسية، فتفنيد الأخبار الكاذبة عملية تستند للمعلومات أولاً ثم للمنطق أولاً وأخيراً، ولكن تفنيد التفاهات معضلة شاقّة، لأنّ مجاراتها بذات منطقها المفتَقَد قد يوقعك في قاع التفاهة ذاته، لذلك فتجنب هذا الفخ يتطلب تجاهله والتركيز على الحقائق الصلبة، الحقائق التي لا تشوبها شائبة وتعززها الوقائع ويدعمها الواقع، وعليه فالأولى عدم التطرق لتفاهاتٍ ناتجة عن التفاهة الأساسية، وهي على قاعدة الأواني المستطرقة، حيث يقول مصدر”إسرائيلي” تفاهة ما، فتمتلئ كل الأواني”الإسرائيلية” في منطقتنا بالتفاهة”الإسرائيلية” فتفيض بها على شكل أخبار وتقارير وتحليلات، فلا تفاهة تضاهي ما تم تناقله عن كون الأسد يرى في”إسرائيل” وسيطاً لعودة سوريا للجامعة العربية، واستجلاب أموال نفطيه لمنحها لإيران لإخراجها من سوريا.

ومن الحقائق الصلبة هي الإجابة على هذه الأسئلة، لماذا تم مهاجمة سوريا؟ وهل كانت سوريا جادّة بإقامة سلام مع العدو”الإسرائيلي” خلال جولات التفاوض السابقة منذ مدريد وحتى الوساطة التركية عام 2008؟ وهل من طبائع الأشياء أن يخضع المنتصر ويقدم تنازلات، خصوصاً وحين كانت النار تُصب على دمشق رفضت تقديم أيّ تنازل مهما تضاءلت قيمته؟ وهل السلام حسب السائد والمطروح يراعي المصالح السورية القريبة والبعيدة؟ وبلغة التافهين هل شرعية النظام تحتاج إلى تعزيز؟ وهل السلام مع العدو أحد ركائز هذه الشرعية،؟، هذه الأسئلة التي أرى أنّ أجاباتها بديهية، وهذا ما يؤكد كونها حقائق صلبة، فسوريا التي فاوضت بشكلٍ غير مباشر ومنذ العام 1991، عُرض عليها كل ما طلبت باستثناء أمتارٍ معدودة تحول دون الوصول لشواطئ طبريا، وهذه الأمتار لجهةٍ ترغب بالفعل في إنهاء الصراع وإقامة سلام لا تعني شيئاً، فهذا التشدد يعني أنّه في زاوية ما في العقل الرسمي السوري، هناك زاوية مظلمة تختبئ فيها الرغبة الجامحة بعدم الوصول لاتفاق، أو بالأحرى عدم التسليم بوجود كيانٍ اسمه”إسرائيل”، وهذا طبعاً على سبيل الاستنباط لا المعلومات، فالعقل السوري عروبي بطبيعته وليس فقط وطنياً، ولكن بما التكتيك السياسي يقتضي وجهاً وطنياً للتفاوض، فقد كانت الأمتار المفقودة من الجولان حسب العروض الأمريكية، هي المدخل السوري للتعبير عن حقيقة عروبته وحقيقة مواقفه ونواياه.

لأسبابٍ كثيرة تتعلق بالصراع العربي-“الإسرائيلي”، ولأسبابٍ تتعلق بالموقع الجيواستراتيجي لسوريا ولمواقفها من الصراع، كان الرفض السوري لتوقيع اتفاق سلام هو أحد أسباب الاستهداف لسوريا، فالعروض التي عُرضت على الرئيس الأسد في بداية ما سُميّ”الثورة” السورية، مع الوجه السافر التي قدمته”الثورة” كبديل للنظام القائم، لا تصب إلّا في خانة التصالح والسلام مع التنازل عن الجولان بأشكالٍ عدة، فممثل الإخوان المدعو ملهم الدروبي طرح في بداية الأزمة، فكرة الاستفتاء الشعبي حول إقامة سلام مع”إسرائيل” بعد سقوط النظام، وآخرون فيما تسمى”المعارضة” قاموا بطرح فكرة تأجير الجولان لـ”إسرائيل” لمدة 99 سنة، وآخرون كانوا لا يريدون الجولان أصلاً دون تكاذب أو محاولات تجميل التفريط عبر الاستفتاء الشعبي أو التأجير، ولم تنقطع العروض على سوريا على مدار العدوان، عروضٌ تتضمن الاعتراف بشرعية النظام ورفع الحصار ورفع العقوبات وتفكيك ما تسمى”قسد” والانسحاب التركي واستعادة إدلب، وانسحاب أمريكي كذلك، كل هذا مقابل تنازلات تقدمها سوريا لـ”إسرائيل”، إن كان في الجغرافيا أو في السياسة، وهذه العروض لم تتوقف حتى حين كانت القذائف تسقط بالقرب من قصر الشعب، ويسمعها الرئيس الأسد على حائط بيته، ورغم ذلك فالموقف السوري لم يتزحزح قيد أنملة، كما هي سيادة القرار السوري.

إنّ من تمسك بحقوقه السيادية والوطنية في ظل أقسى الحروب، لا يمكن أن يتنازل عن حقوقه وهو في أوج انتصاره، ورغم أنّ المعركة لم تنته بعد، ولكن النصر بدا جلياً وابتعدت اشباحٌ كثيرة، وهذا الانتصار السوري جعل من خرائط المنطقة في البيت السوري، وجعل من سوريا قوة إقليمية تستطيع فرض رؤيتها لنفسها وللإقليم، وجعلها عصا الرحى في مصير المنطقة وقضاياها، وكل الضغط التي تواجهه الآن سوريا، هو لمنعها من استثمار انتصارها في هذا الاتجاه، وتقديم الإغراءات الاقتصادية لها مقابل تنازلاتها، يصبّ في ذات الإطار، وفي حال قبول سوريا بذلك، سيتبخر كل ما حققته من قوة ومحورية ومركزية، وستفقد قدرتها على التأثير في خرائط الإقليم وسياساته، وحتى في سياستها المحلية، وستصبح دولةً تابعةً لسياسات”تل أبيب” ومصالحها، حتى لو كانت تتعارض مع مصالح سوريا والسوريين، وستصبح دولةً عالةً تنتظر الهبات والقروض ووصفات البنك الدولي وصندوق النقد، وستصبح مهمة الحكومة السورية منحصرة في اجتراح التبريرات للسياسات والقرارات التي تصب في صالح”إسرائيل” على حساب السوريين، وهذا ما تؤكده حال المطبعين، وهذا يتنافى جملةً وتفصيلاً مع الموقف السوري كما يتناقض كليةً مع السياسة السورية، وعليه فإنّ من يريد فبركة لقاءات وإطلاق الإشاعات، عليه أن يكون أكثر ذكاءً، والأهم أن يكون أقل تفاهةً، حتى نستطيع الردّ والتفنيد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى