كتاب الموقع

هل فقد الحزب قوّة الرّدع في لبنان؟

محمد زكريا عباس | كاتب وباحث لبناني

في البداية لا بد من تعريف مفهوم الرّدع. وهو امتلاك أحد الأطراف المتنازعة قُدُرات تجعل الطرف الآخر لا يعتدي عليه خَوفا أو تَحُسبّا من الردّ المُماثل أو الأقوى. ويستخدم الردع في العديد من المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية وغيرها. وهو غير محصور بمجال معين.

في النصف الثاني من سنة 2021، وفي أوقات متقاربة نسبيا خلال فترة ثلاث أشهر، تعرض حزب الله في لبنان لثلاث مواقف قاسية جدا، منها ما كانت دموية، وضعته أمام امتحانات جدية في كيفية التعاطي معها، خاصة أنها تمس صورة المقاومة وقوتها وهيبتها بشكل مباشر في الداخل اللبناني، حسب ما تراه بيئته الحاضنة وجمهوره من كافة الانتماءات. وهذا ما لم يتعرض له الحزب منذ ثلاث عشر سنة خلت، أي منذ أن أحدث رَدعاً في شهر أيار/ مايو 2008 في وجه من شَرَعَ للمس بسلاح المقاومة.

الموقف الأول كان في منطقة “خلدة”، جنوب بيروت، في أول شهر آب/ أغسطس، عندما تم تنفيذ كمين من مجموعة مسلحة معروفة الانتماء، استهدفت فيه بالرصاص المشيعيين في جنازة الشهيد المغدور “علي شبلي” بدم بارد، والذي كان قد اغتيل على خلفية اشكال سابق – ذا بعد سياسي ـ وأوقع عددًا من الشهداء والجرحى.

الموقف الثاني كان بعد أسبوع تقريبا، في جنوب لبنان في بلدة “شويّا” الحدودية ضمن قضاء حاصبيا على الحدود مع فلسطين المحتلة، بعد أن قامت مجموعات من البلدة باعتراض طريق مقاومين يقودون آلية تحمل راجمة صواريخ كانت تنفذ “عملا رَدعِيّاً” في وجه العدو الإسرائيلي ردا على غارات جوية استهدف فيها لبنان. حيث اعتدت عليهم وحاولت اعتقالهم، ونشرت ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي.
الموقف الثالث حصل مؤخراً في 14 تشرين الأول/ اكتوبر، في منطقة “الطيونة” في إحدى ضواحي بيروت، بعدما نفّذ حزب القوات اللبنانية كميناً مُحَضّرا استهدف فيها تظاهرة سلمية نظّمها حزب الله وحركة أمل للاحتجاج على تسييس المحقق العدلي فادي البيطار التحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت.

أما المشهد العام بعد كل حدث من تلك الأحداث الثلاث كان متشابها إلى حد كبير:

ـ المعتدى عليه هم مقاومون أو من جمهور المقاومة وحلفائها.
ـ هناك شهداء وجرحى بأعداد غير مألوفة ومن طرف واحد (باستثناء حادثة شويا).
ـ هجوم اعلامي مخطط، بعد الحادث من خصوم حزب الله عليه، وفق سياسات مُعَدّة سلفاً.
ـ شماتة في عدد الشهداء والجرحى وعدم التعاطف معهم.
ـ إظهار الحزب بموقع المنبوذ داخل تلك المناطق والبيئات.
ـ الاستخفاف بقدرات حزب الله العسكرية وحجم الضربة التي تلقاها، والايحاء بأنه وُجِّهت صفعة كبيرة له.

ولكن كيف كانت ردة فعل حزب الله على كل مِن تلك الأحداث؟

في توصيف لردة فعل حزب الله، فهو بعد كل حادثة “داخلية” ورغم قساوتها وإراقة دماء المقاومين وجمهور المقاومة وحلفاء المقاومة فيها، كان لا يلجأ إلى ردة فعل عسكرية، على الأقل تُطفئ نار الغضب الذي اشتعلت في قلوب جمهوره من أول حادثة في “شويا”، وامتدّت لتصبح بركانا يفور نتيجة تراكم الأحداث التي لم يحصل فيها أي ردة فعل معتبرة اتجاه المُعتدين. وهذا ما جعل “الرّدع” الذي يملكه حزب الله اتجاه بعض الأفرقاء التي تخاصمه في الداخل اللبناني هشّاّ ومتآكلا بنظرهم. فلماذا؟

بالنظر إلى قوة حزب الله العسكرية، فإنه أولاً حسب اعتراف قادة العدو الاسرائيلي، يملك حزب الله مخزون صواريخ متعددة الأحجام والمديات وقوة التفجير يزيد عن 150 ألف صاروخ، ومنها مئات الصواريخ الدقيقة التي تستطيع أن تصيب أهدافها بدقة متناهية ولمسافات تتعدى ال 700 كلم. كما أنه يملك سلاح جو من الطائرات المسيرة المفخخة قادرة على مهاجمة أهداف بعيدة وبأسراب كثيفة. ويملك صواريخ موجهة بشكل كبير مضادة للدروع قد تصل إلى 8 كلم. ويملك صواريخ دفاع جوي مشابهة للتي أسقطت الطائرة الأميركية الاستراتيجية “غلوبال هوك” قرب الحدود الايرانية  في حزيران/ يونيو 2019. كما يملك صواريخ بحرية قد تصل إلى 300 كلم. بالإضافة إلى أنّ العدو يعتبر أن لدى حزب الله قوّة هجوم بريّة على رأسها “قوات الرضوان” قادرة على الدخول إلى منطقة الجليل الحدودية في فلسطين المحتلة، رغم كل ما يملكه من منظومات نارية وتكنولوجيا عسكرية واجراءات دفاعية على الحدود مع لبنان. فنستنتج من ما تقدم، أن لا تآكل لترسانة المقاومة العسكرية من ناحية الحجم ولا من ناحية النوع، ولا من ناحية جرأة التحضير للمواجهة مع العدو واقتحام مناطقه المحصنة.

أما ثانيا، فإن تجربة حزب الله في السلسلة الشرقية للبنان وفي سوريا على مستوى القتال البري كبيرة جدا وغنية بالتجارب من ناحية تعدد ساحات القتال بين المدن والجبال والأحراش والصحاري وغيرها. وكل العمليات التي قام بها كانت ناجحة وسريعة الحسم، رغم كبر المساحات التي هاجمها، فمثلا تبلغ مساحة القصير وريف القصير حوالى 350 كلم، ومساحة الجرود في السلسلة الشرقية تفوق ال 150 كلم مربع، ومساحة بادية الشام بمئات الكيلومترات.

إذاأمام كل هذه القوة (ذكرنا بعضها) التي صنّفت الحزب كقوة اقليمية، ما الذي كان يردع حزب الله – داخليًا – أن ينتقم لشهدائه وجرحاه عبر تطويق واقتحام أماكن تمركز المجموعات المسلحة في خلدة، أو سحب مقاتليه من “شويّا” بالقوة وردّ اعتبارهم، أو اقتحام أماكن تموضع القناصين والمسلحين في “عين الرمانة” الذين قتلوا المتظاهرين السلميين، من أجل أن يبقى مستوى الرّدع متقدّمًا على خصومه؟!

الجواب هو هَجين. أي مزيج من عدة أمور. فالحزب يعتبر أنّ:

1ـ على الدولة أن تقوم بدورها ومعاقبة الفاعلين.
2ـ البعض يريد جرّه للحرب الأهلية والاقتتال الداخلي خدمة لأهداف أميركية اسرائيلية سعودية، وأن كلفة تحمل عدد من الشهداء أفضل من تحمل فاتورة آلاف بل مئات الآلاف من الضحايا والدمار والتشريد إذا ما وقعت الحرب الأهلية. فالسلم الأهلي خط أحمر.
3ـ الدخول في معارك صغيرة هو بغنى عنها. رغم أنّه قادر على العمل على أكثر من جبهة. والحسم بسرعة في الداخل. وهو بذلك يُسقِط أهداف الخصم.
4ـ الفقاعات والانتصارات الإعلامية للطرف الآخر لن تؤثر على موازين القوى الفعلية على الأرض إذا ما ألقت المقاومة عصا موسى في وجه السَّحَرة المتوهمين. فهي واثقة جدا بقدراتها.

ولكن إلى متى يستطيع حزب الله الصّبر، وإلى متى يستطيع ضبط جمهوره الذي فاق صبره كل التوقعات؟
وفي حال لم تقم الأجهزة الأمنية اللبنانية بدورها الذي يحفظ حق الشهداء والجرحى، ويحفظ ويقدّر تحمّل الحزب للآلام حفاظا على لبنان، ماذا سيفعل حزب الله لإفهام الطرف الآخر أنّه لقد بلغ السَّيل الزُبى؟

إن الردع حاضر بقوة اذًا متى ما تمكن الحزب من احباط الأهداف التي لأجلها يحصل القتل العمد في كل مرة، ويكون الركون الى الدولة وأجهزتها هو الخيار الثابت للمحاسبة بما يُفشل مشروع القتلة.
والأكيد هو أن حزب الله لا يترك دماء شهدائه تذهب هدرًا..

العهد الإخباري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى